كتاب عربي 21

تطبيقات الكرسي العربي

1300x600
جاء في الأثر أن أعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي. وقد جعل الحاكم العربي آية الكرسي أعظم آياته أيضاً. هو جالس، الشعب واقف في جفن الردى.

فوجئ السوريون بخطاب بشار الأسد أمام رؤساء الإدارات المحلية. الخطاب قديم، بل متعفن، لفظاً وشكلاً، فالدكتاتورية هي الدكتاتورية، للمبتدئين كما للمتأخرين.

لم تجدِ مرحلة إخفاء البراثن بالقفازات الحريرية، والحشود هي الحشود. هناك تحديثات شكلية في خطاب الرئيس المصري الجديد، وهو الخطاب بالتقسيط، على شكل تغريدات صوتية، يغردها وهو جالس، مديراً ظهره للشعب، فاتحاً صدره للعدو؛ السبب هو خلقي، تكويني، وليس اختياراً فنياً، فمواهب الرئيس أقل من مقارفة الخطب الطويلة بالعربية الفصيحة. الشعب الجزائري مرتاح من الخطب، ولله الحمد والمنة؛ لأن الرئيس في أرذل العمر. الرئيس السوداني يدخل مرحلة الحكم العسكري الصافي من غير أن يكشف كل أوراق اللعب. والشعب السوداني لن يرعوي حتى يذوق مما ذاق إخوته. الشعوب لا تكف عن المحاولة، فالحرية لها غواية.

زعم مراقبون أن مناسَبة الخطاب الرئاسي السوري غير مناسِبة لمقام الرئاسة المعهود، والحق أنَّ الرئيس لا يحتاج إلى مناسبة قول.. كلامه مناسبة، ظهوره مناسبة، ويجب ألا ننسى أن الأسد حالياً هو رئيس إدارة محلية كبيرة اسمها سوريا في الاتحاد الروسي، بل إن ثمة دول في الاتحاد أكثر استقلالاً منه وكرامة. وقد ترافق الخطاب مع تسريب روسيا صورة لرئيس الإدارة المحلية السورية، وهو يقف خلف رئيس الاتحاد الروسي، وقد نراه يوماً وهو يرفع يديه ورجله أمام الجدار جزاءً وعقوبة. بوتين يقول له: الدب في الكرم، والكرم لم يعد كرمك.

لكن ليس هنا مربط الزرافة.

مربط البغل، أن الخطاب ذكّرنا بما نسيناه من المسرحيات الكوميدية الساخرة السورية، والمرايا، وبقع الضوء، في قطعة الظلام الطويلة، والتي كان النظام يبثّها للتنفيس، ويتباهى بها برهاناً على ديمقراطيته التي كانت متاحة للممثلين في أدوارهم على الشاشة الفضية، ومحرّمة عليهم وعلى الشعب في الواقع.. للعرض فقط.

الخطاب استغرق ساعة وثلث الساعة، فالآلة السورية السياسية الحاكمة قديمة وشحنها بطيء، تخلل ربعها مخللات الهتاف الشعبي والمعارضة الشعرية. هتاف بمعدل كل دقيقتين ونصف، موزعة توزيعاً موسيقياً على متن الخطاب، وعلى الميمنة والميسرة، وعلى الرجال والنساء، وعلى الفلاحين وصغار الكَذَبة وكبارهم. كاميرا مخرج العرض الرئاسي اصطادت صور بعض رئيسات الإدارة المحلية المنتخبات والمتحجبات، للإيهام بأن كل شيء على ما يرام، برهاناً على الديمقراطية والتنوع الطائفي، ولم نرَ غير محجبة تهتف للرئيس على بلاغته. التصفيق ذلّ أحيانا، وليس دائما للتعبير عن الطيران من غير أجنحة.

أنكر الرئيس على ناشطي فيسبوك التصفيق، وأحبَّه لنفسه: لا "إعجابات" في هذا القطر (الروسي الفارسي) إلا للرئيس. كلانا يعلم أنّ الشعب يصفق خوفا من المسدس.. صفّق أو تُقتل.

عاد الشعب إلى الأبجدية الدكتاتورية الأولى التي لم يعرف غيرها منذ الحركة التصحيحية، والحق أنهما (الرئيس وشعب الرئيس) كلاهما يحتاجان إلى شحن البطارية الفارغة، فالنصر غير ظاهر، والغاز مفقود، أي النار مفقودة، سوى لحرق البلد، والخبز سيوزع في الأفران فقط. غدتْ سوريا مركزية، بل شديدة المركزية، كما في أيام الثمانينيات، بلا هوامش. الرئيس سيشحن بطارية الشعب بالكلمات، والشعب بممثليه المنتخبين سيشحنون بطارية الرئيس بالهتاف. الجهات المختصة لا ترى ضرورة لإخراج مشهد إعلامي جديد. الخيال معدوم، دكتاتورية نيئة، طعام نيء.

الجهات السورية المختصة بالحكم وإخراج المسرحيات الوطنية والإعلامية، لا تعرف غير هذا التطبيق "العفوي" المتعفن الذي يشبه النظم لا النثر، وكان بعض الناشطين قد بثّوا لوحة وصفت بالشجاعة، لباسم ياخور في مسلسل "be ابتسامة" على صفحاتهم، ينتقد فيها المخابرات، التي كان دريد لحام ينتقدها، ويتهمها بالتعذيب، والترهيب.. يبدو أنه نسي أن التلفزيون للعرض فقط.. فممنوع اللمس أو الاقتداء. الفانتازيا التاريخية رافقتها فانتازيا واقعية، وفانتازيا سياسية، وفانتازيا إعلامية.

رأينا بشار الأسد، في أول الثورة يدعو موظفيه إلى التواضع، وأقرّ وقتها بكارثة سماها غياب التربية الوطنية، ثم شاهدناه لاحقاً بعد ست سنوات في مشهد قيصري مستعرضاً حرس الشرف مثل بوتين، يحمل حقيبته، ويمشي على السجاد الأحمر، ويعبر باباً كبيراً يعبر منه العمالقة، ويقصد مكتبه في القصر. الرئيس الأسد بات ممثلاً.

زعم الأسد أنَّ قانون الإدارة المحلية القديم كان يناسب سوريا بملايينها السبعة، واعترف بأنه تأخر في تطبيق توسيع الإدارة المحلية، لكنه ما يزال فيلسوفاً.. هناك فساد، هو تقصير وليس فساداً، النقد مرحب به، على أن يكون موضوعياً. الموضوعية هي الحصار والعدو المتربص.. أردوغان هو السبب. النقد الموضوعي كان اسمه سابقاً النقد البنّاء، ما سمعناه في العرض هو الهتاف البنّاء.. والتصفيق موضوعي.

آخر "أخبار الأمم والملوك" أن الرئيس المصري أعدم تسعة.. بلغ عدد المعدومين 32، وقصد السيسي بلاد رؤسائه في مؤتمر ميونيخ للأمن لنيل التقريظ والمديح وشحن البطارية بالشرعية. أما الرئيس الجزائري فأُسعف إلى سويسرا من أجل الصيانة، وابن سلمان أباح للصين ما تفعلها بالإيغور المسلمين، لأمور كثيرة أولها نسيان جريمة قنصليته بخاشقجي.

خطاب الأسد يشبه البضاعة التي كانت توزعها المؤسسة الاستهلاكية: الكبريت لا يشتعل، الرز مسوّس لا يؤكل.. بقي السكر، ثم انقرض هو أيضاً.

أهم التطبيقات الدكتاتورية الموسيقية المعروفة هي: الجزمة والطبل.. الطبل بمعنييه: الحرفي الذي يعني الطرب، والمجازي الذي يعني الإعلامي والمثقف الدجال أحد أهم أسلحة الدكتاتور في الداخل.