قضايا وآراء

ابتسامة مقلقة جدا.. لماذا؟

1300x600
-1-
بوسعك حصر عشرات الصور لأسرى فلسطينيين وقعوا في قبضة الإرهابيين من جنود الاحتلال، وستلاحظ أن هؤلاء يبتسمون للكاميرا، كأنهم يأخذون صورا تذكارية لمناسبة عزيزة على قلوبهم!

من الصور اللافتة لأسيرة، حين نشرت، هزت مواقع التواصل الاجتماعي، كانت لوالدة الأسيرة عهد التميمي: ناريمان التميمي، وهي تبتسم ابتسامة "من الأذن إلى الأذن" كما يقولون، فيما كانت محاطة بجحفل من السجانين والسجانات. وكان مشهدا لافتا أن ترى الأسيرة تبتسم بكل هذا البذخ، فيما سجانوها مقطبو الحواجب، حتى لتحسب أنها هي التي تأسرهم، لا العكس..

ومن قبل، رصد كتاب وصحفيون ومواقع إخبارية خمس صور شهيرة، لا بد أن القارئ العزيز يتذكرها جيدا، وكلها تعلن نفس الرسالة: ابتسامة تعلو على ابتسامة الموناليزا في غموضها، وأنا هنا أستعير ما وصفوا به..

في الصورة الأولى تظهر فتاة عشرينية محجبة محاطة بـأربعة من جنود الاحتلال الصهيوني، يشرق وجهها بابتسامة خالدة غير عابئة ولا مكترثة بالقيود التي في يديها، وربما لا يعرف أحد سر تلك الابتسامة العريضة التي كست الوجه والملامح، في حين أن المنطق يقول إنه من المفترض أن يكون مكان هذه الابتسامة دموع وهلع وخوف ونظرات حائرة مرتبكة، كما يقول أحد الكتاب. ومن المفارقات المدهشة، أن الصهاينة الأربعة المحيطين بالفتاة الفلسطينية لحظة اعتقالها كانوا في حالة مناقضة تماما لحالتها، رغم أنهم مدججون بالسلاح وهي وحيدة ليس معها غير ابتسامتها. وقد لوحظ أن أحدهم امتلأ وجهه بكل ملامح الغضب، والثاني يطأطئ رأسه نحو الأرض، والثالث والرابع في حالة ترقب!

في الصورة الثانية، يظهر شاب فلسطيني محاط بعشرات القتلة من جنود الاحتلال، وبرغم هيبة الموقف، فإن الشاب ذا اللحية الخفيفة والملابس الممزقة بفعل اعتداء قوات الاحتلال عليه؛ بدا وهو مبتسم أنه غير عابئ بكم السلاح الذي يحيط به، ويبدو عليه الثبات، فيما كان مرسوما على وجوه جنود الاحتلال وملامحهم القلق والغضب. وفي الصورة الثالثة يظهر أسير فلسطيني شاب يرتدي الكوفية الفلسطينية مقيدا بالأغلال ومطروحا أرضا، بينما جندي صهيوني يقف بحذائه فوق جسده. ومع قسوة المشهد، فإن الأسير الشاب أبى إلا أن يحرم الصهاينة من نشوة ولذة النصر، فخرجت ابتسامة من قلبه وكست وجهه وهو تحت أقدام جنود الاحتلال الصهيوني، فبدا كما لو كان ميلاد فجر ينير قلبه في ظل ظلمة عارمة!

وفي الصورة الرابعة تظهر مجموعة من جنود الاحتلال وهم ممسكون بطفلة تبدو وكأنها لم تجاوز الثانية عشرة من عمرها. تظهر الطفلة في الصورة وهي تضحك، بينما ينظر الجندي الصهيوني في الأرض. وفي الصورة الخامسة تتكرر الضحكة من شاب فلسطيني يمسك به اثنان من جنود الاحتلال ويقيدان يديه من الخلف، وهو مصر على ابتسامة ليحرم عدوه لذة النصر. والصور كثيرة ومتكررة وتستعصي على الحصر!

-2-
هذه بضع صور رصدها صحفيون وكتاب قبلي، وكلها صور شاهدتها بأم عيني، وغيري الآلاف، وكلها تطرح سؤالا كبيرا عن سر هذه الابتسامة الغامضة، ومدى سحرها، رغم أنها تخرج من أتون حالة في منتهى القسوة.. حالة تشهد هدرا وحشيا لإنسانية الإنسان، على أيدي جنود متوحشين، جاؤوا مهاجرين من أقاصي الدنيا للتنكيل بأهل الأرض وملحها، فلم يبتسم هؤلاء؟ وماذا يقولون بهذا المشهد المحير؟

البعض يرى أن الابتسامة تقول إن الصهاينة المحتلين خسروا رهانهم على الجيل الجديد من الشباب الفلسطيني، الذي ولد في ظل أوسلو ومدريد وواي ريفر، وانهيار النظام العربي الرسمي برمته، أمام أعداء الأمة المؤبدين، وأن ابتسامة الأسير هي طعنة بلا سكين. والأهم من هذا، أنها تحرم العدو لذة الانتصار، حتى لو كان انتصارا بطعم المذلة والهزيمة، فما معنى أن تستقوي على طفل أو طفلة، أو امرأة، أو حتى رجل أعزل، وأنت محاط بكل ما اخترعته آلة القتل البشرية من أسلحة؟ أي انتصار يمكن أن تشعر به، وأنت تطارد مجموعة أطفال من حارة إلى حارة، وأنت لا تكاد تتحرك من ثقل ما تحمل من أدوات القتال؟؟

وسائل إعلام العدو تصف ابتسامة الأسرى الفلسطينيين بأنها "ابتسامة مقلقة جداً". والحقيقة أنها كذلك، فهي ابتسامة "سيلفي" مع النصر، فالضربة التي لا تكسرك تقويك، كما يقول بطل "الشيخ والبحر" لتلستوي، وهي بمعنى من المعاني انتصار على عدوك، حتى ولو كان الانتصار المؤزر مؤجلا، فهو يقيم معك، ويمدك بقوة لا تنضب من التحدي ورفض الإقرار بالواقع الأثيم الأليم، الذي لا بد أن يتغير!

نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي رأوا أن الابتسامة هي سلاح جديد يستخدمه الفلسطينيون ضد جيش العدو، جنبا إلى جنب الحجر والسكين، والرصاص أيضا كلما كان متاحا. وكما يقول أحدهم هنا، فقد يكون تأثير سلاح "الابتسامة" بنفس قوة السكين والحجر، فهو قادر على هزيمة العدو بإحباط نفسيته وزرع الخوف فيه، بالإضافة إلى أن صور الشباب استطاعت أن تعطي قوة وطاقة إيجابية لكل النشطاء جعلتهم يطرحون العديد من الأسئلة حول القوة والشجاعة التي يتمتع بها هؤلاء الشباب في مواجهة عدوهم!

الابتسامة مقلقة جدا، بالنسبة للعدو، فهي تعبير عن استحالة هزيمة أصحابها، حتى ولو كانوا في منتهى الضعف.. بوسعك أن تكسر سلاح عدوك، وتسلبه إياه، لكن أنى لك أن تهزم عزيمته وإصراره على البقاء رابضا على صدرك، حتى ولو كنت تمتلك كل سلاح الأرض؟