قضايا وآراء

بائع البطيخ صانع النهضة

1300x600
استطاع رجب طيب أردوغان أن يلفت أنظار الشعوب العربية والإسلامية إليه، ويكسب إعجابها به، من خلال المواقف المشرفة التي يتخذها، والإنجازات العظيمة التي قام بها، هذا الإعجاب الذي كان أحد أسبابه ندرة الزعماء والرؤساء الذين يتخذون مواقف بطولية مشابهة، أو يحققون إنجازات ملموسة تكون على مستوى طموح وتطلعات تلك الشعوب للحريات العالمية، والعدالة الاجتماعية المتشحة بروح المواطنة.

يا أحمر الخدين

تطالعنا كل يوم انتقادات موسعة لمنهج أردوغان، تارة يتهمه الإسلاميون بأن يتلاعب بالاعتماد على التغيير السلوكي وليس القيمي، فهو لا يمس قيم الدولة الرئيسية (العلمانية). ومعلوم أن القيم هي أعمق ما في النظم السياسية، وتغييرها هو المعنى الحقيقي لتغيير النظام، إلا أن أردوغان لم يتبن الشريعة كمنظومة قيمية مكتملة تؤدي لتغيير شكل النظام، وبالتالي التأثير على مصالح النظام الدولي.

وتارة أخرى يتهمه العلمانيون؛ بأن مراكز التخطيط الاستراتيجي الأمريكية تعرف أردوغان بالإسلامي السياسي، فقد ذكرت مؤسسة "راند" في دراسة لها مدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية، بعنوان "صعود الإسلام السياسي في تركيا"، أن حزب العدالة والتنمية يمثل الإسلام السياسي ولكنه لا يحاول إقامة الشريعة في تركيا. وهذا يفسر تقبل الغرب لهذا النموذج في دولة مؤثرة كتركيا؛ في الوقت الذي لا يتحمل فيه الغرب أي نموذج، وخاصة "إسلامي" يسعى إلى التفلت من قواعد اللعبة الدولية، ولو كان في دولة فقيرة بأقاصي قارات العالم، بل يسعى إلى تقويضه سريعا كما حصل في الصومال وأفغانستان.

الكل ينتقد ويدلي بدلوه ويتهم أردوغان، على مبدأ المثل الشعبي "ما وجدوا في الورد عيب، قالوا له: يا أحمر الخدين".

مرض ألمانيا

هناك العديد من الموروثات في الثقافة الألمانية خاصة؛ لم تستطع التخلص منها عبر العقود الماضية، ويستسلم لها الشعب الألماني ولا يحاول تغييرها. على سبيل المثال لا الحصر؛ رفض الألمان للإنجاب، والعيش بشكل انعزالي، وتعظيم فكرة العمل على شكل "ورش"، وهو نظام تأهيلي مهني، وعلى الرغم ازدهاره في حقبة تاريخية بائسة ومستبدة، ولكنهم يعظمون تلك القيم، ولا يبالون بأي انتقادات ضدها.

هذا المرض التاريخي في ألمانيا يتجسد في تحميل الآخرين مسؤولية السلبيات الحاصلة للآخر، وينفض الألمان عن كاهلهم أي مسؤولية حقيقية مهما كانت واضحة. ففي الحرب العالمية الثانية دفع اليهود ومعهم بعض الأقليات ثمن الأزمات الاقتصادية في البلاد، وتعرضوا لمجازر غير مسبوقة (مع التحفظ على توثيقها).

أرى أن مرض شيطنة أشخاص بعينهم، أو حتى مجموعات دينية وعرقية، موروث ثقافي اختفي قديما، ولكنه عاد للظهور وآخذ في التفاقم في الآونة الأخيرة. ومع تصاعد وتيرة الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتجييش ضد الأجانب، الذين يشكل المسلمون الجانب الأعظم منهم، وخصوصا الجالية التركية كبيرة العدد والعدة، يصب هؤلاء الراديكاليون بكل مناسبة؛ الزيت على النار، دون الاتعاظ من آلام الماضي، ودون إدراك حقيقي لما يمكن أن تصل إليه ثقافة التحارب الأهلي. فهم أسقطوا من حساباتهم عن عمد وجهل أن هؤلاء المسلمين؛ لم يعودوا أجانب، بل هم ألمان، وألمانيا هي بلدهم الأوحد، وذلك لعدم السماح بازدواج الجنسية.

منذ مطلع العقديين الماضيين، أصبح الأتراك والمسلمون هدفا رئيسيّا لتلك الجماعات العنصرية في ألمانيا، وما زالت مأساة من قضوا بشكل مفجع بعد إحراق منازلهم على يد جماعات عنصرية في مدينة "سولينغن"، ماثلة في الأذهان، واستهدفت أيضا مجموعات عنصرية متطرفة مشابهة (نازيون جدد) الكثير من المساجد والمحلات الخاصة بالأتراك في الآونة الماضية. وكانت تقف الحكومة والقضاء الألمانيين عاجزين عن اتخاذ التدابير اللازمة، حتى صعّدت الأحزاب من حربها على هؤلاء "الهمج الإرهابيين"، وخاصة بعد أحداث "نيوزلندا" التي لفتت الانتباه إلى عواقب تلك الأحداث على الأمن القومي، والصراعات الطائفية المهلكة داخل الدولة.

من هذا المنطلق البغيض، والمعاداة العنصرية للأشخاص أو الرموز، أضحى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الهدف رقم واحد لمناهضي الأتراك في ألمانيا.

بائع السميط والبطيخ

بلغ العداء لأردوغان (الذي يعرف ببائع السميط) لدى الإعلام والمؤسسات والساسة في ألمانيا؛ مرحلة مرضية، إلى حد أنهم يحملونه مسؤولية كل ما يحدث، حتى تحدثت بعض النخب السياسية، والتي لها أصول تركية "عرقية"، مثل الرئيس المشارك السابق لحزب الخضر "جم أوزدمير"، الذي زعم أن المنتخب الألماني فقد توازنه لأن لاعبيه "مسعود أوزيل"، و"إيلكاي غوندوغان" التقيا أردوغان، مما يوحي بأن أردوغان عمل على تحريضهما ضد اللعب لمنتخب ألمانيا، وبلغ الأمر حد تحميل أردوغان مسؤولية خروج المنتخب الألماني من كأس العالم.

هذه الأفكار التحريضية؛ التي تعمل على ربط الأحداث ببعضها بهذا القدر من السطحية والسذاجة، هي التي تسود، ويفتح لها النوافذ الإعلامية، ومن ورائها لوبيات أيديولوجية، ومنظمات طائفية تعادي تركيا أردوغان، بشكل واضح لا لبس فيه.

نكران الفضـل

لا يصبح يوم في ألمانيا دون أن تجد في صدر كبرى الصحف وعلى الصفحات الأولى، أو وسائل الإعلام المختلفة، انتقادات للرئيس التركي ولتركيا، رغم أن ألمانيا فيها جالية من أصول تركية؛ يصل عددها لخمسة ملايين تركي، هم الذين جلبهم الألمان بعد الحرب العالمية الثانية؛ لإعادة بناء ألمانيا، حيث بحث الألمان وقتها عن أقوى وأفضل الشعوب صاحبة القدرة والجلد على العمل والبناء، فوجدوا الأتراك؛ الذين أخذوا على عاتقهم العيش والكد والعمل؛ تحت ظروف عمل حقوقية ظالمة، لصعوبة العمل تحت مظلة منظومة عمل قيمية ولغوية مختلفة.

هؤلاء العمال هم الذين بنوا ألمانيا، بعد ذلك تزاوجوا وتناسلوا، وكونوا عائلات كبيرة؛ لأن الغالبية منهم هاجرت مع بعضها البعض ومن عائلات واحدة، وأصبح هناك في ألمانيا أربعة أجيال على الأقل، من الألمان من أصول تركية؛ يديرون كثيرا من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وانخرط كثير منهم في السياسة والمجتمع. من هنا كان يجب على الألمان أن يحفظوا الفضل للأتراك.

أحلام الفتى الطائر

إن هدف أردوغان الأسمى، والذي يعلن عنه بشكل مستمر، ويتسبب في انزعاج الساسة في الغرب، هو تحرير تركيا من التبعية والانبهار والهزيمة للغرب، ومنع سياسات السلب والنهب لثرواتها المتعددة، والعمل على إعادة صياغة هويتها بعناصر تشكيل أصيلة من عمقها التاريخي، ومعاصرة لمكانتها المتميزة كشريك أوروبي، وقائد شرق أوسطى.. هذه هي الأجندة التي وضعها أردوغان نصب عينيه منذ دخوله ميدان السياسة، فهو يحاول أن يستغل هوامش التعامل مع السياسة الدولية بمهارة الحاذق المتمكن من أدواته. ويعرفه كل من حوله؛ بأنه رجل ما انفكت تبرح أحلامه مكانها، من العمل على عدم تبعية تركيا للغرب بشكل مطلق. وأكثر من ذلك، يبذل قصارى جهده ومن خلال حزبه "العدالة والتنمية" على تنامي الحس الوطني باستقلال تركيا اقتصاديا، وتعزيز هويتها القومية.

تركيا تحتل موقعا عالميا لا نظير له، فهي تتمتع بجغرافيا عبقرية (كما هي مصر المستنزفة) تربط بين الشرق والغرب، تؤهلها لقيادة استراتيجية عظيمة ولعب دور إقليمي وعالمي "جيوسياسي". وتعمل الحكومة التركية بخطى متسارعة على إنجاز العديد من مشاريع البنية التحتية، وإنشاء موانئ ومطارات ذات سعة عملاقة، بالإضافة إلى سعيها للاندماج في مشروع طريق الحرير الجديد الصيني الذي تسميه بكين "حزام واحد، طريق واحد"، لتحقيق هذه المكانة المرجوة.

من الجدير بالذكر؛ أي نهوض شرق أوسطي إسلامي يضرب الأيديولوجية الغربية في مقتل، والتي لا تعرف إلا أيديولوجية الاستعمار واستنزاف ثروات المنطقة لأغراض الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية، وتحقيق الاستعلاء الثقافي الاستشرافي، وهو الأمر الذي لا يقبل به أردوغان، والذي عمل على إحياء الروح القومية والفخر بتاريخ الإمبراطورية العثمانية؛ والتي تؤرق مضاجع الغرب، وتقوض جهوده على مدار قرون، في تشويه تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، ومحو التاريخ لتلك الحقبة الوضاءة، ليس فقط في تاريخ الأتراك والمسلمين، بل في تاريخ أوروبا والغرب.

ينطلق أردوغان من قاعدة شعبية تدعمه وتثبت خطواته؛ وذلك لانتخابه ديمقراطيا، ولذا لا يتعامل مع الغرب من منطلق الرضوخ والاستذلال حتى يحافظوا له على عرشه، بل بالندية والتعالي في بعض الأحيان، وهذا ما لا يجرؤ عليه جل حكام العرب الذين جاؤوا عبر أروقة السادة في البيت الأبيض.

إسطنبول درة التاج

انضم أردوغان إلى حزب الخلاص الوطني بقيادة "نجم الدين أربكان" في نهاية السبعينيات، وبحلول عام 1994 رشحه حزب الرفاه لتولي منصب رئاسة إسطنبول، واستطاع أن يفوز في هذه الانتخابات، مع حصول الحزب على عدد كبير من المقاعد.

في هذه الأثناء؛ ارتفع جبل من القمامة والنفايات في قلب المدينة التركية، في بلدة "عمرانية"، ما شكّل خطرا كبيرا على صحة السكان بأكثر المدن التركية ازدحاما، وفجأة، انفجر هذا الجبل عام 1993 بسبب تكوّن غاز الميثان الناتج عن تراكم المخلفات، مما أدى إلى مقتل العشرات من سكان تلك البلدة.

عقب هذا الحادث المفجع، أصبح أردوغان رئيسا لبلدية المدينة. وهنا تبدل كل شيء، أسس المجمع الرياضي للمقاطعة مكان موقع النفايات القديم، وعمل على تطوير البنية التحتية للمدينة بالكامل تحت شعار "العمرانية"، مما ساهم في إنشاء العديد من البنوك والشركات الكبرى، ممثلة بالموجة التجارية التي ساهمت في تحول إسطنبول وباقي المدن التركية، والنهوض الاقتصادي بكافة المناحي، مما رسخ تحول المدينة لوجهة سياحية عالمية. وبهذه الإنجازات العملاقة اكتسب أردوغان شعبية كبيرة في عموم تركيا.

وصف "موقع بلومبيرغ" ما فعله أردوغان بـ"الإنجاز الفريد" من نوعه، إذ إنه السياسي الوحيد الذي قاد حزبا ذا جذور إسلامية للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ونجح في إبقائه كذلك لمدة تزيد عن 10 سنوات، في انتصار يعد مخالفا لتجربة بقية الأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط.

صمود قوة المساجد

الرئيس التركي الحالي رفع بعض المحظورات التي فرضها النظام العلماني التركي، والمتعلقة بالتقاليد الإسلامية والخطاب الديني.

فعلى سبيل المثال، سمح أردوغان للحجاب الإسلامي بالانتشار مجددا، وقام بتضمين مناهج الدين الإسلامي في المدارس، وعملت إدارته على فرض غرامة على القنوات التلفزيونية التي تُتهم بـ"الخلاعة".

استمد حزب أردوغان قوته من الشعب الأكثر تدينا، والذين يشتاقون إلى الإسلام تدينا وتطبيقا، والذين واجهوا تمييزا من قبل "الأتاتوركيين" قبل حكمه، ما أدى إلى فوزه بتسع انتخابات على التوالي، وحاز أيضا زعيم حزب العدالة والتنمية على تأييد الأطياف الأقل تدينا. فعلى الرغم من عدم اتفاقهم معه أيديولوجيا، إلا أنهم يرون أن سياساته أنعشت تركيا اقتصاديا.

بعد فشل الانقلاب العسكري؛ وعلى عكس ما توقع المتربصون، اصطفت تركيا على قلب رجل واحد، تدافع عن ديمقراطيتها الحيوية المتفاعلة؛ بنسب مشاركة لم يعد يعرفها الغرب. وكان السؤال المطروح في أروقة الجنرالات والساسة: هل ستصمد قوة المساجد أمام قوة ثاني جيش في حلف الناتو، مع الدور المشبوه الذي قامت به أمريكا وحلفاؤها الأوروبيين؟

في النهاية، حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان؛ حزب إسلامي يسعى إلى تطبيق الشريعة وفق منهج منفتح على العلمانية، يستشرف المستقبل بتثبيت جذوره وهويته، ويعمل على إحداث التغيير التدريجي الذي ينقل المجتمع التركي من العلمانية إلى الهوية الإسلامية، التي يدعمها بصندوق الانتخابات أكثر من نصف الشعب التركي حتى الآن.