كتاب عربي 21

اليسار يخطئ والنهضة تكسب

1300x600

"ملعونة السياسة التي تشحن شباب جامعي مثقف الى هذه الدرجة، وملعونة السياسة التي تفرق بين التونسي والتونسي لمجرد الاختلاف في الانتماء، وملعونة السياسة التي قد تضع أي شخص منا في يوم من الأيام في مثل هذا الموقف".

بهذه الكلمات علق الناشط السياسي صحبي بن فرج؛ على حادثة الاعتداء الذي تعرض له عبد الحميد الجلاصي، خلال حضوره ندوة عن الإسلام السياسي في كلية الآداب. وكانت هذه الندوة من تنظيم وحدة البحث في الكلية، الخاصة بـ"الظاهرة الدينية في تونس". ونظرا لوجود كل من علي لعريض وعبد الحميد الجلاصي، فقد قام بعض طلبة اليسار المنضوين تحت حزب "الوطنيين الديمقراطيين" باقتحام قاعة الندوة، ورفع شعارات معادية لحركة النهضة، والمطالبة بمغادرة قادتها فضاء الجامعة، وعندما كان يتأهب أحدهما للخروج، تعرض للاعتداء.

يعتبر هذا الحادث الأول من نوعه منذ قيام الثورة، تم خلاله اللجوء إلى العنف ضد أحد قادة حركة النهضة بدوافع أيديولوجية وسياسية. وهو ما ذكر الجميع بعنف مشابه ومتبادل كان يحصل بين الإسلاميين واليساريين خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وكانت تستغله السلطة يومها من أجل إقصاء الطرفين. وقد ظنت الأطراف السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تلك الصور السيئة قد اختفت نهائيا بفضل الثورة التي حصلت، والتي مكّنت الجميع من حرية الحركة والتنظم والمشاركة في الانتخابات، والتي جعلت هذه التيارات والتنظيمات المتخاصمة تنجح في العمل وإدارة الصراع فيما بينها تحت قبة البرلمان.

 

قد ظنت الأطراف السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تلك الصور السيئة قد اختفت نهائيا بفضل الثورة التي حصلت، والتي مكّنت الجميع من حرية الحركة والتنظم والمشاركة في الانتخابات

ما حصل داخل كلية الاداب والفنون والإنسانيات، والشعارات التي رفعت في الأثناء، ذكّر المراقبين والفاعلين السياسيين بمرحلة قديمة، خاصة عندما تم ترديد شعار يصف الكلية بكونها "منطقة محررة"، وذلك للإيحاء بكونها تحت سيطرة شق من الطلبة، ولا يجوز للشق الآخر أن يدخلها أو أن ينظم ندوة علمية في أحد قاعاتها. كما ردد أحدهم قولا خطيرا: "مستعدون للعودة من جديد إلى عنف السبعينات"!

أخطأ هؤلاء الشباب الطريقة والهدف، وأخطأ أيضا من أيّدهم في هذا السلوك أو برره أو سكت عنه. البلاد تغيرت كثيرا، والأولويات لم تعد هي نفسها، وقطع الطريق ضد الخصوم أصبح سلوكا غير جائز في الديمقراطيات، سواء الناشئة منها أو القديمة. وبدل استعمال الصراخ والمنع والعنف للاحتجاج على الخصوم.. كان يفترض حضور هؤلاء داخل قاعة الندوة، والاستماع للمداخلات، ثم طلب الكلمة، والتعليق على المحتوى لإبراز الثغرات ونفي "المغالطات"، والاحتجاج على حضور من يرونه "غير مؤهل" للوجود داخل الكلية. لو فعلوا ذلك لاتخذت الندوة مسارا مختلفا، ولأصبح النقاش هادئا ومثمرا ومفيدا.

خسر الذين مارسوا العنف والإقصاء، وهو ما أقر به المراقبون، وكذلك الذين شاهدوا لقطات التدافع الذي حصل، والتي نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما اعترف به أيضا الكثيرون، من بينهم برهان بسيس الذي لا يمكن اعتباره من المنحازين للإسلاميين، حيث أشار على صفحته إلى كونه "لم يفرح لخروج الجلاصي منتصرا من هذه الحادثة، باعتباره خصما سياسيا"، معتبرا أن "الغوغاء دائما ما يؤثثون ولائم انتصارات النهضة".

 

قوة النهضة في ضعف خصومها.. هذا ما تثبته الوقائع والمعارك التي تخاض ضدها

تعتبر هذه المسألة من أهم الأخطاء التي يرتكبها خصوم حركة النهضة، فهي تدل على جهلهم بكيفية إدارة المعارك معها. إذ في كل مرة يسدون لها خدمات مجانية، وهم يظنون أنهم "يحسنون صنعا". فالكثير من أبناء الحركة يعرفون أخطاءهم ويقرون بها، ومن بينهم عبد الحميد الجلاصي المعتدى عليه، والذي كان ضمن مجموعة مغضوب عليها نظرا لمعارضتها للقيادة الحالية. لكن بدل أن يحسن الخصوم التركيز على المسائل الصحيحة والجدية، يقع اللجوء إلى العكس، ويقوم هؤلاء بارتكاب ممارسات خاطئة تكون من نتائجها تقوية النهضة وتحويلها إلى ضحية، وتعمل على حشرها في الزاوية الخطأ.

قوة النهضة في ضعف خصومها.. هذا ما تثبته الوقائع والمعارك التي تخاض ضدها. ولا يتعلق الأمر فقط بعموم اليسار التونسي، ولكن الظاهرة تشمل معظم المنافسين لها في الساحة التونسية. فالانقسامات المستمرة داخل حزب نداء تونس دليل آخر على هشاشة هؤلاء وقلة حيلتهم وضعف إرادتهم، وجهلهم بحركة التاريخ. إذ بدل أن يتماسكوا قليلا، وأن يستثمروا ثقة الجماهير التي منحت لهم من أجل أن يتمكنوا من السلطة ويعدّلوا الكفة والميزان، إذا بهم يخونون الأمانة، وينخرطون في مسار تميّز بالصراع والاقتتال، حتى أثخنوا أجسامهم بالجراح، وتحوّلوا إلى كائنات ضعيفة وغير وازنة أمام جسم النهضة؛ الذي رغم خسرانه لمليون ناخب، إلا أنه لا يزال الأقوى والأقدر.