قضايا وآراء

"كلبش 3".. وخُبث الرسالة

1300x600
لكل عمل فني مفتاح شيفرة، إن استطعت وضع يدك عليه فإنك تمتلك كل أسرار هذا العمل، وتطلع على نوايا صنّاعه، وتوجيهات رأس المال الداعم لإنتاجه.

ومفتاح شيفرة الدراما التلفزيونية "كلبش" في جزئها الثالث؛ من السهولة بمكان الحصول عليه، فليس وَحدَهُ الشكر المكتوب في "تتر" نهايةِ المسلسل لإدارة العلاقاتِ العامة بوزارة الداخلية وللأمن الوطني؛ المتكفل بفك شيفرة المسلسل، لأن اسم المسلسل في حد ذاته فاضح كاشف، ويحمل أيضا تساؤل: لماذا اختارت وزارة الداخلية من بين الأدوات التي تستخدمها حصريا وما أكثرها "الكلبش"، ليكون اسما للعمل الفني المَنوط بتحسين صورتها الذهنية لدى المواطن، التي أصابها الكثير من العطب قبل وبعد ثورة يناير 2011؟

إذن، وزارة الداخلية تُبرر لك أيها المواطن بلغة فنية جيدة (لا أنُكر) لماذا تضع "كلبش" في معصمك، لماذا أنت مُقيد داخل وطنك، لماذا ليس من المسموح لك أن تعيش على أرضها حُرا، رغم تضحياتك المسُتمرة عبر العصور!

اهتم صناع مسلسل "كلبش" برسم شخصية البطل الرئيسي "سليم الأنصاري" بعناية فائقة، فهو البطل القوي الشجاع الواثق بالله، وهو الأب العطوف والابن البار لأم صابرة سلوتها وطب قلبِها قراءة القرآن الكريم، وهو المهني المُدرب الحاسم الصارم الجسور العاشق لمصر، الذي لا يضعف ولا يتقهقر ولا يَمّن ولا يضن بتضحياته ولا يخون.. إنه باختصار كتلة من النور المتجرد من أجل وطنه.

وبالطبع تصميم شخصية بهذه الطريقة لم نعتد عليها إلا في الدراما الهندية؛ لأن رسم الشخصيات دراميا بصورة ناضجة بالقطع لا يكون هكذا، فصانع الدراما الماهر، كما يتحتم عليه أن يبرز لك ما تتميز به شخصية العمل الرئيسية، يجب عليه أيضا أن يوضح لك سقطاتها التراجيدية. ومهما كانت صفات البطل الحميدة، يجب أن يهتم "الدراماتورج" أيضا بإظهار عيوبه الشخصية، وبعض النتائج والمواقف السلبية التي يتعرض لها البطل أحيانا بسبب وجود هذه العيوب. ولكن لا بأس، فبهذا أرادت وزارة الداخلية المصرية وسم صورة ذهنية جديدة لضباطها، وأنا شخصيا أدعم هذه الصورة بكل حب وتقدير، بل وأطالب وزارة الداخلية بالعمل على تحقيقها وتعميمها. ولتكونوا كلكم #سليم_الانصاري فلا نسمع ثانية عن ضابط عذّب أو اغتصب أو لفق قضايا، أو حتى أهمل في واجبه أو سخر من الوطن في صورة الإساءات المتكررة في التعامل مع مواطنيه.

وقبل الانتقال إلى بواطن "الخبث والخبائث" في دراما "كلبش 3"، من المناسب أن نبين أن "دراماتورج" المسلسل تعمد تأصيل صفات سليم الانصاري الرائعة عن طريق رسم شخصية "اللواء جلال" تلك الشخصية التي أداها بإبداع الفنان نجم دراما تسعينيات القرن الماضي، أحمد عبد العزيز، وهو اللواء الذي لم يتزوج غير مهنة الشرطة، وليس له أبناء غير ضباطها، وهو الذي يؤجل علاج مرض السرطان رغم آلامه حتى لا يسقط شَعرُ رأسهِ فتهتز معنويات فريقه الأمني الذي اعتاد أن يراه قويا شامخا بصوت وخيم موح ومفعمٍ بالحماسِ والثقة في النصر، بغض النظر أن هذه "التيمة" نفسها شاهدناها بوضوح في أحد أجزاء السلسلة الأمريكية الشهيرة "روكي"، وتحديدا في الجزء المسمى "كريد 1".

وأكاد أتخيل من الآن المشهد الذي سيبدو فيه أحمد عبد العزيز، وقد فقد شعر رأسه بسبب علاج الكيماوي في نهاية المسلسل، ولكن بعد تمام المهمة. ولكن أقول إن صناع المسلسل أرادوا رسم شخصية ضابط الشرطة بأنه الشخص الذي يستطيع تقديم تضحيات من أجل الوطن بقوس مفتوح، وهذا جيد، بل هذا رائع ونحن نحلم بكم هكذا، فقط تمسكوا أنتم بهذه الصورة التي دعمتم صناعتها وكونوا كلكم سليم الأنصاري.

الدراما عندما تقوم بتصميم شخصية لا يملك الجمهور إلا أن يحبها ويتعاطف معها تماما، ويتفهم هاجسها ويتمنى لها الفوز في نهاية الأحداث؛ بلا شك تريد أن توجه مشاعر غضب الجمهور مباشرة في اتجاه أعداء هذه الشخصية، وليس أبشع من عدو كشخصية "أكرم صفوان" التي يؤديها بإبداع غير عادي الفنان هشام سليم، لا سيما وهي المتجردةُ من أبسط المشاعر الإنسانية، لدرجة أنها تُصيب طفلا صغيرا بفيروس نادر وخطير يُسقِطَهُ في غيبوبة تامة؛ من أجل السيطرة على والده البطل الشجاع، ضابط الشرطة المثالي سليم الأنصاري.

إذن المعادلة كالتالي: أنت أيها المشاهد تحب سليم الأنصاري وتثق في قيادته وهاجسه الوطني المغلف بصبغة إيمانية معتدلة، وبالتالي تكره خصمه أكرم صفوان، وكل ما يمثله وكل من يتحالف معه، وكل أهدافه وحلفائه، ويصيبك الهلع والنفور من كل مخططاته.

أكرم صفوان ليس إسلاميا هذه المرة، ولكنه رجل بوجه مدني، له صفَة البرلماني، وصفة رجل الأعمال.. ملامحه، رغم أنها تشي بالبراءة، إلا أنها تُخفي قسوة ليس الكارهُ لوطنه فقط، بل الكاره لجنسِه العربي وأُمَته الإسلامية.. الشخص الذي يتحالف مع أعدائها دون غصة حلق لأنهم الأقوى، والنصر في المعارك يكون للأقوياء وحلفائِهم.. أكرم صفوان أيضا مؤسسة ضخمة تتغلغل في كل مفاصلِ الدولة، وتمد أذرعها المأفونة عبر كل شرائحها وطبقاتها الاجتماعية، وأهدافه تظهر بعد تمهيد طويل ولكنه مشوق.

بعد نجاح صناع الدراما في تسع حلقات تقريبا في رسم ملامح الصراع الجديد بين قوى الخير، ممثلة في جهاز الشرطة، وقوى الشر ممثلة في مندوبها في الداخل أكرم صفوان، وهي القوى التي لا تمل من نسج المكائد لمصر، يأتي الحدث الصاعد بوصول شخصية يُلمح صُنّاع الدراما إلى أنه عراقي، لم يتألم بسبب ما حدث في بلاده عام 2003، في إشارة واضحة للغزو الأمريكي، ولكنه استطاع الأكل على كل الموائد، في إشارة لقيامه بتوفيق اوضاعه مع أمريكا والصهيونية العالمية.. هذه الشخصية تأتي إلى مصر بعد تمهيد للأرض كبير وعنيف من أكرم صفوان حتى تقابل شخصية معارض مصري. نعم يختلف مع النظام، ولكنه أيضا يتعاون مع الأمن الذي يحمي النظام، وهي شخصية "محمود علوان" التي أداها بثقة وخبرة بالطبع الفنان ناصر سيف. ليس خطورة هذه الرسالة في محاولة ترسيخ فكرة أن المعارض الحقيقي (من وجهة نظر صناع الدراما) موجود ويتعامل مع الشرطة التي تحميه وترعاه وترعى أبناءه أيضا؛ لأنها تتفهم ضرورة وجود معارضة، بل وتعترف الدراما بأخطاء النظام، ولكن الخطورة أنها تحاول أن ترسخ في اللاوعي لدى المشاهد أن المعارضين الذين تعتقلهم الشرطة في مصر وتنكل بهم وتعذبهم هم، بالتالي مجرد خونة مرتبطين بالخارج المتآمر دوما على مصر.

وتتضح هذه الفكرة بسخف (كالسخف الذي حاولت فيه شخصية سليم الأنصاري إبراز انضباط الشخصية الميري في مقابل لامبالاة المدنيين في أحد المشاهد، وليته يقرأ عن تجربة الرئيس البرازيلي دا سيلفا وهو لم يكن شخصا ميريا كما تُرّوج) في مشهد اللقاء الأول بين هذا المعارض العراقي الآكل على كل الموائد بالمعارض (الأمنجي) محمود علوان الذي يعرض عليه الانضمام إلى تحالف عربي واسع، أو جبهة موحدة تضم كل أنصار الربيع العربي للعمل كفريق موحد بتمويل مالي غير محدود، بعد تأكيده أن الخطأ في الموجة الأولى للربيع العربي أن ثوار كل دولة عملّوا بطريقة منفردة دون تنسيقٍ جبهَوّي، بل ويظهر في هذا المشهد بوضوح تعبير "الموجة الثانية"، وأن مقر هذه الجبهة المزمع إنشاؤها في مدينة إسطنبول!!

إذن، هذا الجهد الدرامي الكبير والحشد الفني والتمثيلي والميزانيات الضخمة هدفه التأثير على المشاهد لرفض كيان ثوري مثل المجلس العربي للدفاع عن الثورات العربية، والذي يرأسه د. المنصف المرزوقي، رئيس الجمهورية التونسية السابق، ويضم بين أعضائه نخبة من السياسيين والمفكرين والأكاديميين العرب، مثل المرشح الرئاسي الأسبق في مصر الدكتور أيمن نور والسوري الدكتور أحمد طعمة، واليمنية الحاصلة على جائزة نوبل توكل كرمان.

ورغم خُبث الرسالة، إلا أن تجيش كل هذه الطاقات في دراما "كلبش 3" لصد المواطن المصري عن عمل المجلس العربي للدفاع عن ثورات الربيع العربي، وضد مصطلح الموجة الثانية، لدليل دامغ على مدى خوف النظام العسكري في مصر من عمل هؤلاء الأحرار الذين لا ينتمون إلى التيارات الإسلامية؛ التي يبدو أن النظام اكتفى من تشويهها وأراد البدء في ملحمة تشويه المعارضة المدنية، ووضع "كلبش"ــهُ الدرامي لتقييد معصمها.

وأخيرا، تعمّد صناع دراما "كلبش 3" المفعمة بالتشويق والأحداث المتصاعدة برشاقة وحرفية وإثارة، رسم قصة فرعية بطلها هو الشخصية التي لعبها الفنان نبيل نور الدين ومشاهده حتى الآن فقط مع أحمد عبد العزيز (اللواء جلال)، هذه القصة الفرعية هي بيت القصيد، وهي المبرر الأخلاقي لسؤال قد يبرق في ذهن المشاهد: لماذا لم تقبض الشرطة على أكرم صفوان وتعذبه كعادتها وتعرف منه سر دواء الطفل (ابن سليم الأنصاري) وتنتهي الأزمة؟ لماذا أخطر أهل الشر يتركهم الأمن المصري يتحركون أمام عينيه في أمان ويسر، فقط يعمل على إفشال خططهم لحماية مصر منها، السبب يكشفهُ اللواء جلال الذي يحكي عن ضابط قديم لم يستسلم نفسيا لنكسة 67، وأعد خطة أمنية بديلة، وضعت في حيز الإعداد الفعلي عام 69 (السنة التي تولى فيها السادات منصب نائب رئيس الجمهورية) ويُكمل اللواء جلال تقديمه لهذه الخطة السرية بأن الضابط الذي فكر فيها استمر في إعدادها لمدة عشرة سنوات حتى وضعت حيز التنفيذ الفعلي، أي أنها وضعت حيز التنفيذ عام 79 (العام الذي ابتُلينا فيه بمعاهدة سلام السادات مع الصهاينة).

إذن، الداخلية المصرية تبرر سلوكها المكروه شعبيا في مصر بأنه محاولة لحمايتها وفق الخطة البديلة التي وضعها السادات؛ خطة محاولة احتواء الصهيونية التي تملك العلم والسلاح والمال والقوة والأذرع الطويلة، بدلا من مواجهتها عسكريا وقطع العلاقات معها والعمل على تحرير أرض فلسطين، وتعتمد هذه الخطة على فكرة مربعات رقعة الشطرنج ومرونة تحرك القطع عليها، وأسلوب الضغط والحشد المفاجئ ضد القطع الضعيفة للخصم حتى تسقط تلقائيا.

حسنا، كان يمكنني تصديق هذا يا سادة لو أن النظام في مصر يهتَم بالبحث العلمي والجامعات، ولم يضطر صبي كان يُدعى بالمخترعِ الصغير إلى البقاء مضطرا خارج مصر؛ من بطش متعمد يهدف إلى تسليم عبقريته إلى أعدائنا كهدية مجانية!!