قضايا وآراء

الديمقراطية التي أحضرت ترامب وجونسون

1300x600
صعد بوريس جونسون إلى رئاسة حكومة بريطانيا باختيار أعضاء حزب المحافظين، وهو رجل مثله مثل ترامب؛ صاحب شخصية هوجاء ومعروف بهفواته. وقد عبّر الرئيس الأمريكي عن إعجابه بوصف الناس لجونسون بأنه "ترامب بريطانيا"، وقال إنه سيكون جيداً لبريطانيا وإنها تحتاجه.

بحسب نقد رئيس حزب العمال البريطاني جيرمي كوربين، فإن جونسون هو اختيار الأقلية من الأثرياء والشركات الضخمة من خلال الوعود التي منحهم إياها بتخفيض الضرائب. ويَعِد كوربين في حال فوزه بحكومة تمثل مصالح الأكثرية، وتقدم خدمات اجتماعية وصحية أفضل.

في ضوء صعود شخصيات مثل ترامب وجونسون إلى قيادة دول وازنة، ومن المحتمل أن تأتي الانتخابات في دول أوروبية أخرى بمفاجآت من نمط هذه الشخصيات، فإن السؤال هو إذا ما كانت الديمقراطيات الغربية تعبّر عن تمثيل حقيقي للتوجهات الشعبية، وهل هذه الخلطة من العنصرية والسلوك الأهوج وعدم الاتزان الشخصي هي تفضيلات الشعوب، أم أن هناك دولة عميقة تمثل مصالح رأس المال هي المصنع الحقيقي لهؤلاء القادة السياسيين؟

يقدم المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي نقدا جذريا للنظام الديمقراطي الليبرالي، فيراه مصمما لخدمة رفاه النظام الرأسمالي، وأن دور المحكومين هو "القبول الشكلي"، وهو مبدأ يشمل أكثر الحكومات استبداداً وعسكرية؛ إلى أكثرها حرية وشعبية.    

ويرى تشومسكي في كتابه "الربح مقدماً على الشعب"؛ أن دور أفراد الشعب في النظام الديمقراطي السائد هو قيامهم من حين لآخر بالاختيار من ضمن قادة يمثلون السلطة الحقيقية، لقيادة الميدان السياسي، بينما ينبغي إبعاد عامة الشعب عن الميدان الاقتصادي، حيث يحدد بدرجة كبيرة ما يحدث في المجتمع.

يُنسب مبدأ "القبول الشكلي" إلى فيلسوف عاش في القرن الثامن عشر؛ اسمه فرانسيس هوتشسون، والذي قدم تصورا للتوفيق بين مصالح أصحاب السلطة الحقيقية وبين مطالب الشعب. فرأى هوتشسون أن مبدأ "قبول المحكومين" لا يُخرق عندما يفرض الحكام خططا مرفوضة من جانب العامة، إذا كانت الجماهير "الغبية والمتعصبة" فيما بعد ستقبل بحماس ما فعلناه باسمها.

في الدولة الاستبدادية أو في الأراضي الأجنبية يمكن استعمال القوة للحصول على "قبول المحكومين"، أما في الدول الديمقراطية، حيث تكون مصادر القوة محدودةً وفق تشومسكي، فإنه يتوجب الحصول على قبول المحكومين من خلال رأي عام تقدمي.

ويشير تشومسكي إلى أن صناعة العلاقات العامة منذ نشأتها قد كرست لغرض التحكم بالتفكير العام، و"إن حقيقة امتلاك صناعة العلاقات العامة" جذورها ومراكزها الرئيسة في البلد الأكثر حريةً هو بالضبط ما ينبغي لنا توقعه.

يمكن البحث في جذور العلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية بتأمل أفكار الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأمريكية جيمس ماديسون، والذي دعا إلى تصميم النظام الدستوري، بحيث يمنع طبقات الشعب من انتزاع الملكيات العائدة لملاك الأراضي. ومن أقوال ماديسون أن المسؤولية الأساسية للحكومة هي "حماية الأقلية الغنية مقابل الأكثرية".

أما إدوارد بيرنايز، الكاتب الأمريكي الذي كرس كتاباته حول كيفية السيطرة على عقول الناس وتوجيههم، وكان جوبلز وزير دعاية ألمانيا النازية أحد المعجبين بأفكاره، فيقول في كتابه "حول العلاقات العامة": "إن التلاعب المقصود والذكي بالعادات والآراء المنظمة للجماهير هو عنصر مهم في المجتمع الديمقراطي، وينبغي على الأقليات الذكية الاستفادة من البروباغاندا استفادة مستمرة ومنهجية.

يواصل بيرنايز: "تستطيع القيادة أن تضبط تفكير العامة من فترة قصيرة لأخرى بالقدر ذاته الذي يضبط فيه الجيش أجساد جنوده في نسق موحد. إن عملية هندسة القبول هي بالذات جوهر العملية الديمقراطية".

في ذات الاتجاه، يقول عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل، في موسوعة العلوم الاجتماعية: "إن على الأقلية الذكية أن تدرك جهل وغباء الجماهير، وألا تستسلم للأفكار الدوغمائية الديمقراطية القائلة بأن أفراد الشعب هم أفضل من يقدر مصالحهم الخاصة بهم، بل نحن الأقدر على تقدير مصالحهم. يجب أن تخضع الجماهير للسيطرة حرصاً على مصلحتها هي. وفي المجتمعات الأكثر ديمقراطية حيث العنف غير متاح ينبغي أن يلجأ المدراء الاجتماعيون إلى طريقة جديدة بالكامل للسيطرة، وغالبا ما تكون من خلال الدعاية".

هذه المنطلقات الفلسفية التي تؤصل ديمقراطية رأس المال؛ هي التي أنتجت داخل الديمقراطية الرأسمالية صيغةً تدار من خلالها الحكومات، بما يحقق مصالح القلة وأصحاب النفوذ في مجالات خاصة، ومن باب أولى فهي التي أنتجت شرعنة التدخل الخارجي لإجهاض الديمقراطيات حين تأتي بنتائج لا تتوافق مع مصالح الشركات.

وفي هذا السياق، يستدل نعوم تشومسكي بوثائق رفيعة المستوى؛ تصف نتائج الانتخابات في أمريكا اللاتينية بأنها تتعارض مع "توفير مناخ سياسي اقتصادي يفضي إلى الاستثمار الخاص، مع تحقيق عائد ربحي مناسب وحماية ثرواتنا من المواد الخام، والتي هي ملكنا حتى لو وجدت خارج حدود دولتنا". ولهذه الأسباب يوصي جورج كينان، مخطط السياسات الخارجية للحكومة الأمريكية، بالتوقف عن الكلام بشأن الأهداف غير الواضحة وغير الحقيقية، مثل حقوق الإنسان ورفع مستويات المعيشة والدمقرطة.

وقد دعمت الحكومة الأمريكية بالفعل انقلابات عسكرية ضد حكومات منتخبة لم توافق مصالحها، مثلما حدث في تشيلي وإيطاليا. وتظهر وثائق وزارة الخارجية الأمريكية تحذيراً من أن "أبناء أمريكا اللاتينية يفضلون سياسات مصممة بحيث تؤدي إلى توزيع أوسع نطاقاً للثروة وترفع مستوى معيشة الجماهير. وهذه الأفكار غير مقبولة، فأول المستفيدين من ثروات بلد ما يجب أن يكونوا المستثمرين الأمريكيين"، حسبما ينقل تشومسكي.

هذه الاقتباسات الموجزة لهيمنة رأس المال على الديمقراطية تظهر أن الشعوب لم تقل كلمتها بشكل جلي وكامل بعد، وأن إرادة هذه الشعوب إن لم تكن مصادرة بالقوة التسلطية السافرة؛ فهي مصادرة بأدوات تزييف الوعي والتحكم في اتجاهات التفكير من مؤسسات العلاقات العامة، وأن العالم يحتاج طريقا طويلا من النضال الأممي للدفع باتجاه كسر هيمنة الأقلية والتحول نحو الديمقراطية الاجتماعية، وإيجاد أنظمة أكثر عدالةً وإنسانية وتمثيلية للناس.