كتاب عربي 21

حديث الهزيمة والصمود

1300x600

فتحت الرسالةُ المنسوبة إلى معتقلين مصريين في السجون؛ البابَ أمام الحديث عن هزيمة الثورة ككل، وهزيمة أنصار جماعة الإخوان المسلمين بشكل خاص، ودارت نقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي تنحو إلى تأكيد الهزيمة، بينما صدرت تصريحات لقيادات جماعة الإخوان تؤكد أنها "رسالة أمنية، وأن معتقليها صامدون"، بينما أخذ خطاب السيد إبراهيم منير منحى غريبا بقوله: "إن الجماعة لم تضرب أحدا على يده لينضم إليها"، وهو خطاب يشير إلى عمق الأزمة الأخلاقية، ومدى كفاءة القيادة لدى بعض قيادات الجماعة في أعلى مستوياتها التنفيذية.

الرسالة (أيّا كان مصدرها) تعبر عن واقع السجون وفقا لروايات معتقلين سابقين كُثُر، كما أن السجون التي تقتل بالإهمال الطبي المتعمّد؛ ليس بعيدا عنها تدمير معنويات محتجزيها. فليس في الرسالة ما يشير إلى أمر جديد، لكن الصخب الإعلامي الذي صاحبها أثار نقاشا جماعيا وعلنيا وصاخبا حول ما ينبغي عمله لإنهاء أزمة المعتقلين السياسيين بالسجون المصرية، كما أنه ألقى ضوءا ساطعا على وجود "إقرار جماعي" بهزيمة ثورة يناير. وهذا الإقرار قوبل بمحاولة بائسة لإعلان الصمود من قِبل قيادات لا تعيش هموم المسجونين والمشرّدين، وتشير حياتهم الهانئة بالخارج إلى ذلك.

ما تعلمناه من الثورة أن عملية التغيير لا تسير في خط مستقيم، بل إنها تسير في منحنيات دائمة عقب النجاح الأوّليّ لها، وكفاءة قادة عملية التغيير تتحدد بقدرتهم على الوصول إلى غايتهم في التغيير عبر هذه المنحنيات، ومن ثَمّ يمكن القول (في ظل حديث الهزيمة والصمود) إن ثورة يناير في مرحلة تراجع وهزيمة كبيرتين، ولن تتقدم مرة أخرى في ظل الوضع الحالي لمن شارك بها إلا إذا تغيّرت النخبة السياسية التي هُزمت في تلك المرحلة.

 

 

ثورة يناير في مرحلة تراجع وهزيمة كبيرتين، ولن تتقدم مرة أخرى في ظل الوضع الحالي لمن شارك بها إلا إذا تغيّرت النخبة السياسية التي هُزمت في تلك المرحلة

وهذا التغيير ليس مرتبطا بمجرد الهزيمة، بل مرتبط بأدائهم خلال فترة ما بعد التنحي حتى الآن. ففي كل المراحل كانت الخلافات هي الحاكمة بين أطراف الثورة، حتى انتهت الأمور إلى تحالف واضح لإسقاط نظام الرئيس الراحل محمد مرسي، وأعقبه لفْظٌ بطريقة مهينة لكل مكونات هذا التحالف. وهذه النخب لا زالت أسيرة خلافات ما قبل الانقلاب، واللافت أن هذه المكونات اكتفت بخلافات عامين ونصف لإحداث قطيعة شديدة الحدّة فيما بينها، وتجاهلت تحالفات وتنسيقات سياسية بدأت منذ انتخابات برلمان 1987، فتم إهدار تفاهمات سياسية بُنيت خلال 24 عاما حتى نجاح الثورة المصرية مطلع عام 2011، فلهذا لم تعد تلك النخبة السياسية صالحة لإحداث قوة دافعة لعملية التغيير في مصر، وتصويب تلك الانحناءة بالغة الشدة في مسار الثورة، إلا إذا أوقفت المناكفات الصبيانية بين أطرافها.

يعد حديث الصمود في هذا السياق المأزوم حديثا عبثيا، وهناك فارق بين إحداث الأمل، وبين إطلاق أكاذيب أو تصريحات عنترية تزيد من هموم وأوجاع المعتقلين؛ الذين تعرضوا لأزمات عنيفة أدت إلى إحداث حالات طلاق ونزاعات أسرية وانهيارات اجتماعية، لسيدات صِرْن يخدمْنَ في البيوت بعدما كنّ معززات في بيوتهنّ، وكل من يقاوم ظروف الحياة التي فرضها نظام السيسي لا يفعل ذلك صمودا بوجه نظام شرس ودموي، بل يفعل ذلك إزاء الحياة ليصمد أمام متطلباتها وتوحشها، فلا تسحقه أكثر من ذلك. والمعتقلون ربما كانوا أسوأ حالا ممن هم خارج السجون، خاصة أصحاب الأحكام النهائية، بل إن النظام الوقح لا يدع فرصة لمعتقلين سابقين في عمل كريم يعينهم على مشاق الحياة، بل يتدخل لمنع البعض من العمل نهائيا، أو الاكتفاء بأعمال لا توفر عوائد مادية مناسبة، ليبقى "المشاغبون" والمواطنون البسطاء في ظل دوّامة متطلبات الحياة بقسوتها.

 

 

 

المعتقلون ربما كانوا أسوأ حالا ممن هم خارج السجون، خاصة أصحاب الأحكام النهائية، بل إن النظام الوقح لا يدع فرصة لمعتقلين سابقين في عمل كريم يعينهم على مشاق الحياة، بل يتدخل لمنع البعض من العمل نهائيا

ليس الغرض من هذا الحديث ترسيخ مفهوم الهزيمة في الأذهان، بل وضع اليد على أسبابها، وربما إذا حانت لحظة مناسبة للاشتباك السياسي سنجد تحركا غير متوقّع من عموم المصريين والمهتمين بالشأن العام الذين لم يخرجوا من مصر بعد، وحينها سنجد صمودا غير متوقع كذلك في مقابل آلة القتل الوحشية التي يقودها سفاح يعاني من اضطرابات نفسية، وسيبقى الخوف (حينها) متعلقا بممارسة النخبة السياسية التي ستنسب نفسها إلى قيادة الجماهير، وهي في الحقيقة أبعد ما تكون عن آمالهم وتطلعاتهم، وربما تؤدي مواقفها المحكومة بمصالحها الضيّقة وانحيازاتها السياسية التي لا تراعي الصالح العام إلى الحفاظ على الوضع الراهن، وهو ما سيفتح بابا واسعا لاضطراب اجتماعي نتيجة سياسات الإفقار التي يمارسها النظام السياسي بالتزامن مع غياب بديل يقود الحراك السياسي، ويدفع بعملية التغيير إلى الأمام، وكُفر الشارع بمسار التغيير السياسي نذير شؤم.

ما يحتاجه الشارع المصري ليس الإقرار بالهزيمة أو إعلان الصمود، بل يحتاج إلى وضع مسار للخروج من حالته الراهنة، ولن يستفيد المصريون من إعلان الهزيمة، كما أن وضعه لن يتغير بمجرد إعلان الصمود. ومثل هذه النقاشات السطحية تشير إلى رغبة قادة الحراك السياسي في الهروب من الواقع إلى نقاشات جانبية تبغي التنصّل من مواجهة النظام، وإلقاء كل طرف عبء مسؤولية الوضع الراهن إلى خصمه السياسي، الأمر الذي يشير بجلاء إلى عمق الأزمة المصرية.