كتاب عربي 21

مصر بين المياه الراكدة والعقول الراكدة

1300x600

بدت الأحداث الأخيرة في مصر كحجر أُلقي في مياه كانت تبدو راكدة، ومهما كانت حقيقة "مياه نظام عبد الفتاح السيسي"، فإنّ استنفاره وإن أراد منه تكريس دعايته التقليدية التي يُسوّر نفسه بها، وتأكيد تحطيمه للحياة السياسية في البلد، ومنعه الدمويّ لأيّ فعل شعبيّ مهما كان صغيرا ومحدودا، وإدامة أجواء الخوف والرعب والقحط السياسي، فإنّه في الوقت نفسه أظهر موت السياسة داخل النظام نفسه؛ النظام الذي لا شيء لديه يقوله لشعبه سوى تعظيم الخوف، والترهيب من البديل والمجهول، والذي يلصق مكوّناته بالفساد الموزّع، ويستند في بقائه والحاجة إليه إلى فقر الدولة السياسي والأخلاقي وعجزها وفشلها، ليكون السيسي معبّرا بحقّ وصدق عن طبيعة الدولة، لا عن طبيعة النخبة الحاكمة الراهنة فحسب.

منذ انقلاب عبد الفتاح السيسي، ونحن نحاول القول إنّ مجرد صعود الشخص نفسه، بخلفيات غامضة، وسياسات مريبة، وارتباطات مشبوهة، وثقافة محدودة، ونزعات أخلاقية مرذولة.. يعني بالضرورة خللا عميقا في بنية الدولة المصريّة، ويشير إلى اختراقات جوهريّة في عمقها، وفي أجهزتها ومؤسساتها كلّها، وكأنّ الدولة كانت مستباحة للفاعلين الإقليميين والدوليين، طوال حقبتي السادات ومبارك على الأقل، بما في ذلك من يفترض أنّهم أعداء تقليديون لهذه الدولة.

 

 

أصوات ظاهرة في معارضة السيسي، عادت للخطاب التقليدي في الرهان على الدولة نفسها، ممّا يعني أنّها لم تستفد من أهمّ ما في تسجيلات محمد علي التي تحمّست لها، ويعني ركود تفكيرها

وإذا كان صعود السيسي صارخا بتنفيذه للأجندة الإسرائيلية في تدمير البلد، فإنّ انحياز مجمل الدولة له، ثم عجزها لاحقا (على فرض وجود تناقضات فيها) عن وضع حدّ له أو محاصرته، يعني إخفاقا مركّبا في قيامها بعملها، وفي كون حقيقتها كصورة السيسي تماما، والذي بات صورة لهذه الدولة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ عمق الدولة الذي خرج إلى السطح بعد ثورة يناير، وبعد انقلاب السيسي، ببروز بعض النخبة الفاعلة في العمق.. أبان عن رداءة مثيرة للدهشة في كل أجهزة الدولة ومؤسساتها.

 


أهمّ ما كان في تسجيلات محمد علي في مرحلتها الأولى هو تأكيد هذا المؤكّد، وسماعه بشكل مختلف، مع حقائق من داخل الدوائر المحيطة بالسيسي، وهو ما يعني بالحرف؛ فساد الجيش ومؤسسات حماية الدولة، وانخراطها العميق مع السيسي في عمله التخريبي. وبالرغم من ذلك، فإنّ أصواتا ظاهرة في معارضة السيسي، عادت للخطاب التقليدي في الرهان على الدولة نفسها، ممّا يعني أنّها لم تستفد من أهمّ ما في تسجيلات محمد علي التي تحمّست لها، ويعني ركود تفكيرها، وجموده عند ما قبل ثورة يناير حتّى، عند خرافات أسطرة الدولة وجيشها ومؤسساتها.

ثمّة فرق دقيق هنا بين الاستفادة من التناقضات الداخلية إن كانت حاصلة، وبين وضع تلك التناقضات في سياق مناقض تماما لسياقاتها الحقيقية. فوجود شرخ في بنية النظام عامل مهمّ للتغيير، بيد أنّ الخلل في توصيف ذلك الشرخ وفهمه، هذا في حال وجوده فعلا.

 

 

صار السيسي عندهم فارّا أو مخلوعا، والحركة المحدودة التي عقبت تسجيلات محمد علي صوّروها ثورة عارمة، وأمانيهم عن صراعات مؤسسات الحكم وتناقضات الجيش والمخابرات العامة والحربية، جعلوها حقائق

لم يقتصر الركود الفكري عند بعض معارضي السيسي؛ على القبوع في مرحلة ماضية ثبت بطلان تصوراتها بآلاف الأحداث والأدلة الساطعة، وإنّما أيضا بترويج الخرافات، في نمط متخلّف من التحليل الرغبويّ، الذي قد يقود أصحابه في بعض الأوقات إلى الكذب الصريح، باختلاق معلومات لا وجود لها، أو بتحويل التحليل إلى معلومات، أو الرغبات إلى حقائق، فصار السيسي عندهم فارّا أو مخلوعا، والحركة المحدودة التي عقبت تسجيلات محمد علي صوّروها ثورة عارمة، وأمانيهم عن صراعات مؤسسات الحكم وتناقضات الجيش والمخابرات العامة والحربية، جعلوها حقائق صارخة تفتك بنظام السيسي.

وبينما يتساءل المرء بحزن عن وجود شخصيات مؤثّرة في الرأي العام، وهي تتسم بكل هذا التكلّس في التفكير، والمحدودية في النظر والربط والتحليل، والفقر في الثقافة والمعرفة، فإنّ سوءها يتمدّد إلى تضليل الرأي العام، وإشاعة اليأس والقنوط بعدما يتبين خطأ أو كذب ما قدّموه، بل وحتّى الحركة في المياه الراكدة، وحينما يتفاعلون معها يساهمون في تثبيطها بعقولهم الراكدة.

الثورة على السيسي، تحتاج أيضا ثورة على العقول الراكدة في صفوف بعض معارضيه!