كتاب عربي 21

قيس سعيد: بين الرئاسة والزعامة

1300x600
أصبح أستاذ القانون الدستوري القادم من خارج السياسة المنظمة؛ رئيسا لتونس بحوالي ثلاثة مليون صوت (منها مليون ونصف من خارج القاعدة الانتخابية للأحزاب)، وهي أعلى نسبة شرعية في تاريخ تونس المعاصر. بل إن حصيلته من التصويت تماثل حصيلة المصوتين لمجمل أعضاء كل البرلمان.

من الضروري أن ننسب الأمر طبعا، حيث أن التصويت لسعيد بهذه الكثافة في الدور الثاني هو نتيجة لتصويت مضاد يقصي المرشح الثاني، أي نبيل القروي الذي توالت حوله القرائن على تورطه في الفساد وعلاقات مع أوساط ضغط إسرائيلية.

لكن منذ تجاوز قيس سعيد الدور الأول إلى الدور الثاني، حدثت ديناميكية جعلت قيس سعيد بشكل سريع مرشح لحظة جديدة، بمعزل عن قدرة سعيد على تمثل اللحظة التاريخية. لكن الأهم، وهذا أيضا درس للتاريخ، أن الجموع والحشود تصنع الشخص وليس فقط خصاله. هذه الأرضية لا تجعل صاحب هذه الديناميكية الجارفة رئيسا فحسب، بل يمكن بعدها ملامسة مجال "الزعامة" بمعناها السياسي، وليس الأسطوري أو "البطولي".

بمعنى آخر، يمكن أن يكون قيس سعيد إما إزاء عبء التوقعات لملايين الناخبين أو فرصة الاستثمار في الرأسمال الانتخابي وتوجيه الأمور في اتجاهات إيجابية. وتواجه اللحظة، أي ديمقراطية بصدد تشكيل إحداثياتها، تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، وحالة حيرة مواطنية. هي ديمقراطية تحتاج قيادة تحظى بدعم واسع. وبعكس الأنظمة الاستبدادية حيث الزعيم يشبه الكاريكاتور، رغم أن مقدماته تسعى لفرض ألوهيته الوهمية، والديمقراطيات قبل العصرية، حيث يبقى الزعيم فوقيا، فإن زعيم الديمقراطيات العصرية هش ويخضع للمراقبة الفورية والدائمة.

قبل الثورة، كانت الأنشطة العامة الوحيدة المعروفة لسعيد في المجتمع المدني، حيث قيل إنه شغل منصب الكاتب العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري خلال التسعينيات. في السنوات الأولى بعد الثورة، اكتسب شهرة كمعلق تلفزيوني منتظم، وناقش الدستور والدفاع عن الثورة. وأصبح رمزا لمعاداة النخبة بسبب ملفه الشخصي المتواضع، ورفض التمويل العمومي لدعم حملته.

سرعان ما ظهر سعيد في مقدمة استطلاعات الرأي مع اقتراب موعد الانتخابات، لكن فوزه بالمركز الأول كان مفاجأة لمعظم المراقبين، مع عدم وجود حزب يدعمه، ودون توجد حملة انتخابية كبيرة للحديث عنها. لقد تجنب في الغالب الظهور في وسائل الإعلام مع المرشحين الآخرين.

سيكون أحد أكثر الأسئلة إثارة للاهتمام هو: كيف ستؤثر الموجة السياسية التي تدفع سعيد في المستقبل على الانتخابات التشريعية المقبلة 2024 أو قبلها؟ إنه لا يفتقر إلى حزب فحسب، بل إنه يرفض المشاركة في الانتخابات التشريعية. ومن المفارقات أنه يرفض استخدام الأداة التشريعية، التي هي أقوى بكثير من النظام الرئاسي التونسي، وهذا قد يؤدي إلى مزيد من التعقيدات على الطريق.

قيس سعيد لن ينتظر كثيرا. هو وبقية الفاعلين السياسيين معنيون بمواجهة اول تحد سياسي، أي تشكيل الحكومة. وهو معني بتسهيل المسار إن صعب على المكلفين دستوريا بقيادته.

للتذكير، وفقا للفصل 89 للدستور، فإن المراحل التي تسبق الذهاب إلى انتخابات مبكرة تستوجب استنفاد الحزب الأول في الانتخابات مساعي تشكيل حكومة. لكن إزاء النسبة الضعيفة أو العشرين في المئة لحركة النهضة (52 مقعد من 217) وصعوبة المفاوضات بين الكتل البرلمانية، فإن تشكيل حكومة تترأسها حركة النهضة تبدو فرضية صعبة. وبناء على الدستور، "إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما". وبناء على تاريخ انعقاد البرلمان الجديد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، يكون آخر أجل لمنح البرلمان الثقة للحكومة قبل انقضاء أجل الأربعة أشهر، أي في شهر آذار/ مارس.

عندما يكون لديك رئيس منتخب بحوالي ثلاثة مليون صوت، تصبح مؤسسة الرئاسة معنية أساسا باحتضان أي حوار وطني. طبعا يحضر الرباعي كمكون أساسي، لكن خرجنا من المرحلة التاريخية التي يقع فيها تهميش المؤسسات المنتخبة (خاصة بشرعية ثلاثة ملايين صوت) ليتدخل الرباعي لإنقاذ الموقف. ومبدئيا، تبدو علاقة قيس سيعد بالرباعي معقولة وطيبة لكي لا يحصل أي سوء فهم لأهمية التراتبية الانتخابية/ الشرعية.

بمعنى آخر، نحن إزاء مرحلة تاريخية جديدة من ناحية التاريخ السياسي، على الجميع التقاطها حتى يمكن للهبة الشعبية التي أعادت بعض الأمل في الاستحقاق الانتخابي الأخير؛ أن تجد صداها في بناء المؤسسات والخروج من عنق الزجاجة الاقتصادية- الاجتماعية.

الناخبون جددوا ثقتهم في المنظومة الديمقراطية (بمعزل عن التصورات المختلفة لتفعيلها)، ولم ينجروا نحو نوستالجيا الاستبداد، رغم مغريات من يحاول مقايضتهم بين الحرية ووهم النفع المادي، لهذا من المهم عدم خذلانهم.