قضايا وآراء

الرئيس التونسي الجديد: بين انتظارات الناخبين وإكراهات السلطة

1300x600
كان يوم الأربعاء (23 تشرين الأول/ أكتوبر) يوما تاريخيا بالنسبة إلى عموم التونسيين، بل وبالنسبة إلى العرب كافةً في علاقاتهم "الملتبسة" بمسارات الثورات العربية ومآلاتها. فعلى خلاف المسارات الارتكاسية التي عرفها "الربيع العربي" في العديد من الدول، استطاع التونسيون أن يديروا ثورتهم بصورة يُغبطون عليها.

لقد مثّل وصول الأستاذ قيس سعيد إلى رئاسة الجمهورية ضربة موجعة لمحور الثورات المضادة (بقيادة السعودية والإمارات)، ولكل وكلائهم في منظومة الحكم القديمة ومن التحق بها بعد الثورة التونسية من"الانقلابيين الجدد"، على اختلاف دوافعهم الأيديولوجية أو البراغماتية.

في ذلك اليوم، كان العالم كله يتجه بأنظاره إلى تونس لسماع خطاب الرئيس المنتخب قيس سعيد، وهو خطاب ألقاه أثناء مراسم أداء القسم قبل أن يتسلم مهامه رسميا، خلفا للقائم بمهام رئيس الجمهورية (وأحد رموز المنظومة القديمة) محمد الناصر. ولعل ما يزيد من أهمية هذا الحدث هو أن الرئيس التونسي الجديد نجح في الوصول إلى قصر قرطاج رغم عدم انتمائه للنواة الجهوية الصلبة للحكم، ورغم عدم انتمائه لأي حزب سياسي. لقد نجح السيد قيس سعيد أمام "ماكينات" حزبية وإعلامية ومالية ضخمة، واستطاع أن يجمع حوله من التونسيين (قرابة الثلاثة ملايين ناخب)، ما عجزت عنه كل الأحزاب مجتمعة في الانتخابات التشريعية.

وقد كان التونسيون ينتظرون الخطاب الرئاسي للوقوف على أولويات سيد قرطاج الجديد ومشروعه للحكم، في إطار الصلاحيات التي يخولها له الدستور من جهة أولى، وللوقوف (من جهة ثانية) على طبيعة العلاقة بين الوعود الانتخابية المرتبطة بأفق الثورة والإصلاح الجذري، وبين خطاب رجل الدولة المقيد بالتوازنات المحلية والإقليمية المعقدة. فما هي أهم الرسائل التي بعثها الرئيس الجديد للداخل والخارج؟ وهل استطاع خطابه أن يتمايز جذريا عن خطابات "رجال الدولة" بالمعنى المنحدر إلينا من المرحلتين الدستورية والتجمعية؟ وكيف تمفصلت العلاقة بين "الثوري" و"الرئيس" أو بين الحالم والمسؤول في ملفوظات الخطاب وفراغاته، بل في المسكوت عنه والمقموع والمهمش؟

إنه لمن العسير أن نكتب نقدا في شخص استطاع أن يتحول إلى رمز، ومن العسير أيضا أن نسفّه بعض الأحلام المشروعة أو على الأقل ننغّصها بسلطة الواقع وسطوته. ولكنّ مشروعية هذا النقد تأتي أساسا من انحياز الرئيس ذاته للثورة، ولمن هم أسفلَ السلم الاجتماعي أو ما يمكن تسميته بـ"مرحلة ما دون المواطنة".

وقد يكون من الحيف أن ننتظر من السيد قيس سعيد تقديم شرح مفصل لمشروعه السياسي خلال حفل تنصيبه، ولكن من حقنا أن نعرف على الأقل خطوطه الكبرى من خلال فهم السيد قيس سعيد لمعنى "استمرارية الدولة" أو لقواعد "الشراكة" داخليا وخارجيا، وكذلك من خلال موقفه من القضايا الخلافية بين التونسيين والمتصلة بالأمن القومي (كالاغتيالات السياسية والتدخل الخارجي في الشأن التونسي، وسبل مواجهة التهريب والتهرب الضريبي وآليات التعاطي مع قضايا الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، والقروض الفاسدة زمن المخلوع وبعد الثورة.. الخ.. الخ).

لم يكن احتفاء السيد قيس سعيد بالثورة التونسية التي كسرت نماذج الثورات التقليدية أمرا غريبا، كما لم يكن اعترافه بمديونية الدولة للشهداء والجرحى الذين أنتجوا معنى جديدا للشرعية أمرا غير منتظر. ولكنّ الإشكال يبدأ عندما تحدث رئيس الدولة عن "استمرارية الدولة" ومؤسساتها. فهذا المفهوم المخاتل كان أداة من أهم أدوات التطبيع من الرأسمال البشري للمنظومة القديمة، قبل التطبيع مع واجهاتها الحزبية بإسقاط مشروع قانون تحصين الثورة وكتابة القانون الانتخابي على مقاس مرشح المنظومة القديمة المرحوم الباجي قائد السبسي ومن يدعمه من أحزاب "أفضل البقايا". ولذلك، فإن حديث الرئيس المنتخب عن "استمرارية الدولة" سيبقى حمّال أوجه، إلا في صورة تأكيد الفرق بين استمرار المؤسسات وضرورة "تخليصها" من العقل الإداري/ النقابي الذي يتحكم فيها، ذلك العقل الذي أعاد تدوير أسوأ ما في منظومة المخلوع ووفر لهم الغطاء اللازم للتمترس في مراكز القرار وتعطيل أي عملية إصلاح حقيقية.

وقد يكون من لغو الحديث أن نطلب من رئيس الجمهورية أن يتدخل في ملف هو من أنظار الحكومة (وزارة الإصلاح الإداري تحديدا)، ولكنّ الرئيس بحديثه عن استمرارية الدولة (دون بيان فهمه الخاص لمعنى الاستمرارية من منظور الإصلاح والقطيعة مع منظومة الفساد) يوجه رسالة طمأنة لكل المتنفذين بغير حق في الوزارات والمؤسسات التابعة لرئيس الجمهورية.

ولعل نقطة الالتباس الأخرى التي وردت في خطاب الرئيس؛ هي "تثمينه" (وموافقته الضمنية) على مشروع مواطني للتبرع بيوم عمل طيلة خمس سنوات هي مدة عهدته الرئاسية. ورغم أن الرئيس لم يطرح تلك المبادرة التطوعية باعتبارها جزءا من مشروعه السياسي، فإن مجيئها خارج حزمة من المقترحات جعل فئة من التونسيين تتوجس خيفة من إرهاقهم بضرائب جديدة وإن اختلفت التسمية.

لا شك في أن التطوع هو سلوك مواطني بامتياز، ولكنه يفقد قيمته الرمزية وجدواه الاقتصادية إذا لم يرتبط بجملة من المقترحات الأخرى، كتنازل الرئيس وطاقمه الرئاسي عن نسبة من أجورهم، أو التخفيض في موازنات المؤسسات التابعة لرئاسة الجمهورية، أو تقديم مشروع قانون لتخفيض رواتب الوزراء وغيرهم من مسؤولي الدولة، ومراجعة الامتيازات الوظيفية لكبار المسؤولين، أو التعهد بالتحرك الديبلوماسي لمراجعة "الديون الفاسدة"، أو التعهد باسترجاع الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج بفضل تواطؤ السلطات المتعاقبة على حكم تونس منذ 2011، أو التعهد بجعل قضايا التهرب الضريبي والتهريب والتوريد العشوائي واسترجاع ديون رجال الأعمال لدى البنوك العمومية من أولويات مجلس الأمن القومي (بل من محددات علاقته بالأحزاب والحكومة والمجلس النيابي)، باعتبار تلك القضايا "إرهابا" اقتصاديا لا يختلف في أضراره المجتمعية عن الإرهاب التكفيري.

ومحصول القول إنه كان أولى بالسيد الرئيس أن يبتعد عن الحلول الترقيعية السهلة، وأن يشعر التونسيين بأنه يتحرك ضمن مشروع مختلف عن مشاريع "النهب التطوعي" المنغرس في الثقافة الاستبدادية التي لم يخف يوما تمايزه عنها ورغبته في "تجفيف" منابعها.

لقد بدا واضحا في خطاب الرئيس أن رغبته في أن يكون "جامعا" لكل التونسيين قد غلبت رغبته في الانحياز الصريح وغير الملتبس لمشروعه الإصلاحي. فجاءت جملته السياسية غير متمايزة إلا قليلا عن الجملة السياسية التقليدية، وغلب الإنشاء في مواضع الإخبار، والإجمال في موارد التفصيل. وهو ما يعني أن "رجل الإصلاح" قد خضع لمنطق "رجل الدولة" وللإكراهات التي يخضع لها، وهي إكراهات تجاوزت الشأن التونسي الداخلي لتشمل العلاقات الخارجية. فرغم أن الرئيس قد أكّد على أنّ الالتزام بالمعاهدات الدولية لا ينفي حق تونس في مراجعتها بصورة تضمن مصالحها ومصالح باقي الشركاء، فإنه قد اكتفى بخطاب إنشائي أعرض عن تسمية الأطراف المستفيدة من تلك الاتفاقيات ومجالات استفادتها من التبادل غير المتكافئ.

ولم يكن حديث الرئيس عن القضية الفلسطينية هو الآخر متخففا من عقل الدولة وخياراتها السابقة. فقد جاء موقف الرئيس "إنشائيا"، بل متراجعا خطوة عن موقفه خلال المناظرة التلفزية التي جمعت بينه وبين نبيل القروي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. فهو لم يتحدث عن "تجريم التطبيع" ولا عن نيته تقديم مشروع في هذا الخصوص، كما أكد على أنّ "الحق الفلسطيني لن يسقط" رغم الصفقات، لكن دون أن يحدد طبيعة هذا الحق ومرجعيته (هل هو الحق في كل فلسطين التاريخية، أم هو الحق بالمعنى الذي جاء في اتفاقيات أوسلو أم هو أمر غير ذلك؟)، ودون أن يسمّيَ الأطراف الدولية والإقليمية التي تقف وراء "الصفقات" الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية. ولا شك في أنّ الرئيس التونسي يعبّر رغم كل ذلك عن موقف "تقدمي" مقارنة بالمخلوع أو بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، إذ لم يكن "العقل الديبلوماسي البورقيبي" ليسمح بالوقوف (ولو على استحياء) ضد صفقة القرن ومَن وراءها في البيت الأبيض وفي محور الشر.

ختاما، قد يكون الرئيس قيس سعيد في هذه الفترة محوجا إلى النقد أكثر من احتياجه إلى الدعم غير المشروط. ولا شك في أن القراءة "المتفائلة" أو المنحازة للرئيس ستجد في أي نقد "تحاملا"، وفي أي قراءة تفكيكية لخطابه ضربا من "الخيانة" أو من التجني على منطوق خطابه الذي أجمع أغلب التونسيين على استحسانه. ولكنّ وظيفة المشتغل بالشأن العام هي البحث في فراغات الخطاب وتجاوز منطوقه إلى المسكوت عنه، بل وظيفته هي مهاجمة التلقي السلبي والمطمئن، ذلك التلقي الذي قد يتحوّل بالتدريج إلى شكل من أشكال عبادة الزعيم وتكريس أحادية الصوت.

ولا شك في أن تونس قد عانت الأمرّين (وما زالت تعاني) من هذا الوعي السياسي البائس الذي يراد إعادة إنتاجه؛ باستغلال رمزية قيس سعيد وشرعيته غير المنازع فيها.