كتاب عربي 21

السجون العربية وثورات الربيع

1300x600

إن قراءة ظاهرة السجون العربية المخصصة للمعارضة السياسية أو ما يسمى سجناء الرأي، تحتاج موسوعات ضخمة لتقصّي القدر الأدنى من هذا المكوّن المركزي في مرحلة الاستبداد التي حكمت ولا تزال تحكم المنطقة العربية بالحديد والنار. 

السجون العربية ليست فقط أماكن للحجز والتعذيب والاستنطاق ومصادرة كرامة الإنسان بل هي بنية ثقافية كاملة تقوم على موروث استعماري وعلى رؤية للإنسان وللقانون والعدالة وهو أخطر مكوناتها. لكن لماذا تحرص المنظومات الاستبدادية على تلميع صورة سجونها أمام المنظمات الدولية؟ ولماذا تصمت المنظمات الدولية أمام جسامة الجرائم التي ترتكب في السجون العربية؟ وما هو الدور الذي لعبته السجون العربية في اندلاع ثورات الشعوب؟ 

الاستبداد سجن كبير 

ليست السجون مرتبطة بالأنظمة العربية وحدها بل هي متماهية مع كل نظام قمعي قائم على حكم الفرد الواحد وليست الأنظمة المعاصرة إلا شاهدا على الدور الذي لعبته في تكريس سلطة الحاكم بأمره. بل إنّ أنظمة سياسية بعينها تفننت في تحويل السجون إلى مراكز للموت والتنكيل والإبادة مثل سجون هتلر النازية أو سجون ستالين في سيبيريا الروسية أو سجون غيرهما من الطغاة.
 
إن ثقافة التنكيل بالمعارض السياسي أو الفكري تمثل ردّة الفعل الطبيعية لكل نظام استبدادي قائم على حكم الفرد. أي أن الحكم الفردي لا يعترف أولا بالرأي المخالف ولا بالمعارضة السياسية وهو عندما يُنكّل بخصومه ومعارضيه إنما يعبّر عن موقفه من فكرة الرأي الآخر المختلف عنه أو الناقد له. لا يمكن لنظام الحكم الفردي أن يعترف بالمعارضة السياسية الحقيقية وإلا فإنه يتحول إلى بنية سياسية مختلفة تقوم على الممارسة التعددية للسلطة. مبدأ التنكيل بالرأي الآخر هو شرط من شروط وجود البنية الاستبدادية نفسها نشأة وتمدّدا.

 

ليست السجون مرتبطة بالأنظمة العربية وحدها بل هي متماهية مع كل نظام قمعي قائم على حكم الفرد الواحد

 
لكن في الحالة العربية لم تقتصر السجون على المعارضة السياسية بل شملت كل رأي مخالف لا يتوافق مع هوى الحاكم فكانت سجون عبد الناصر مثلا تضم الإسلاميين والشيوعيين والليبراليين بل وحتى العسكريين الذين كانوا ضمن فريق الانقلاب على الملكية مثل محمد نجيب.
 
ليس السجن في الحقيقة إلا الوجه الآخر لهوى الحاكم الفردي الذي يضع بين جدرانه كل من ترى فيه أجهزة مخابراته تهديدا لحكمه وهو كذلك الأمر الذي يؤكد أن منظومة العدالة والقوانين في الأنظمة الاستبدادية ليست إلا وهما وسرابا هدفه التغطية على جرائم النظام وتشريع جرائمه. 

ثورات الربيع وسجون الاستبداد 

لا شك أنّ قصص السجون ومعاناة مئات الآلاف من المساجين السياسيين ومساجين الرأي قد ساهمت بشكل كبير في دفع الموجة الثورية التي انطلقت من تونس. لقد نجح نظام بن علي في تأسيس نظامه القمعي الخاص منذ مطلع التسعينات مستندا إلى نفس البنية التي وضع أسسها بورقيبة وهي نفس البنية السجنية التي وضع أسسها النظام الاستعماري قبله. أي أن نظام السجون التونسية هو نظام موروث عن الحقبة الاستعمارية التي نكلت بالمقاومين والمجاهدين من أجل الاستقلال ثم استعملها بورقيبة للتنكيل بخصومه من اليوسفيين خاصة وهم الذين اعتبروا الاستقلال وهما وكذبة كبرى ثم تسلم بن علي نفس المنظومة لينكّل بمعارضيه من الإسلاميين.

 

اليوم فتستعيد سجون الاستبداد نفس الدور الذي كان لها قبل ثورات الربيع وهو الأمر الذي نشهده في مصر بعد الانقلاب


نفس النسق ينسحب على كثير من الدول العربية خاصة تلك القائمة على فكرة الزعيم مثل ليبيا ومصر وسوريا. في ليبيا مثلا كان لسجن بوسليم سيء السمعة دورا حاسما في انطلاق ثورة فبراير العظيمة ضد الطاغية القذافي، بل إن الشرارة الأولى للثورة انطلقت من الاحتجاجات المتعلقة بضحايا هذا السجن المرعب الذي قضى فيه خيرة أبناء ليبيا من المعارضين والمثقفين.
 
أما اليوم فتستعيد سجون الاستبداد نفس الدور الذي كان لها قبل ثورات الربيع وهو الأمر الذي نشهده في مصر بعد الانقلاب، حيث تحولت سجون مصر إلى معتقلات للتخلص من المعارضين خاصة من جماعة الإخوان المسلمين وهي نفس السجون التي قتل فيها الرئيس الشرعي محمد مرسي وقضى فيها الشيخ مهدي عاكف.
 
المعتقلات في مصر هي امتداد طبيعي للمشروع الانقلابي الذي أشرف عليه العسكر، أما في سوريا فإن سجن صيدنايا الشهير صار مقبرة لكل معارض لنظام الأسد أو مساند لثورة شعب سوريا ومنه تسربت أبشع الصور التي لا تضاهيها إلا صور سجن أبو غريب المسرّبة إبان الغزو الأمريكي للعراق. 

تجميل سجون الاستبداد

لم يكن حرص النظام المصري مؤخرا على إظهار سجونه في مظهر إقامة فاخرة إلا تأكيدا منه على سعي متواصل لإخفاء الجريمة وطمس معالم ما يُرتكب من انتهاكات داخلها. الرسالة كانت موجهة بالأساس للخارج الدولي الذي يُصدر من حين لآخر تقارير مُدينة لمنظومة السجون المصرية يهدف من ورائها إلى إبقاء الضغط الدولي قائما على النظام المصري ولتلميع الوجه القبيح للنظام الدولي ككل حتى لا يُتهم بالصمت المتواطئ مع جرائم الأنظمة القمعية العربية.

 

اكتسب الطغاة العرب منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى قبلها شرعية دولية في قمع معارضيهن خاصة من الإسلاميين دون الخوف من المحاسبة أو العقاب


من جهة أخرى لا يقتصر تجميل قمع الاستبداد على المنظمات الدولية لأن هذا الفعل هو جزء من وظيفتها كهياكل رقابية تعمل على مراقبة عمل النظام الرسمي العربي وآلاته القمعية بل يشمل أيضا نخب السلطة التي توكل إليها وظيفة التعتيم على كل جرائم النظام.

لكن لم يكن ذلك التجميل ولن يكون ممكنا دون شيطنة الآخر وتجريد المعارضة من صفة الانسانية حتى يكون قمعها أمرا مبررا وطبيعيا. هنا وفي هذه النقطة بالذات تتقاطع آليات الاستبداد ومصالح القوى الخارجية من خلال صياغتها لتهمة الإرهاب التي سمحت للنظام القمعي العربي بالتنكيل بمعارضيه تحت غطاء الحرب العالمية ضد الإرهاب.

من هنا اكتسب الطغاة العرب منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى قبلها شرعية دولية في قمع معارضيهن خاصة من الإسلاميين دون الخوف من المحاسبة أو العقاب ودون أن تخضع أجهزتهم الأمنية إلى المساءلة أو المحاكمة. 

السجون العربية كانت ولا تزال العنوان الأبرز لقمع حرية الإنسان سواء كان ذلك إبان فترة الاحتلال العسكري المباشر أو خلال عقود من حكم الوكلاء الذين كرّسوا ثقافة القمع والتعذيب والتصفية الجسدية. 


إن الموجة الثورية الثانية التي انطلقت من السودان ووصلت إلى الجزائر ثم العراق ولبنان تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن جدار الخوف الذي أسسته السلطة الحاكمة في البلاد العربية على أنقاض المنظومات الاستعمارية قد سقط إلى غير رجة وأن السجون والمعتقلات التي أثثها الطغاة لم تعد تُثني جماهير الأمة عن المطالبة بحقها في الحرية والكرامة والنهضة.