قضايا وآراء

الإسلام والرجم (27): علماء رفضوا الرجم وأدلتهم

1300x600

ذكرنا في المقالات السابقة أدلة من قالوا بأن الرجم حدّ، وقمنا بمناقشة هذه الأدلة بتفصيل، وبقي الرأي الآخر، وهو: أن الرجم ليس حدّاً، سواء كانوا محصنين أم غير محصنين، وأن عقوبة الزناة هي الجلد مئة فقط، سواء كان الزاني محصناً أم غير محصن، عملاً بآية سورة النور، التي يرى أصحاب هذا القول: أنها آخر تشريع تم في العقوبة، وقد نفى الرجم قديماً وحديثاً عدد من الفقهاء والعلماء، وبقي أن نعرض لهذا الرأي ولأدلته، ولأشخاصه الذين قالوا به.

وقد انقسم موقف الفقهاء المعاصرين من الرجم ـ عدا من يقولون بأنه حدٌّ ـ إلى ثلاثة أقسام: فقسم يتوقف فيه، ولكنه أميل إلى الرفض، يلوح ذلك من ثنايا كلامه، لكنه لا يصرح به. وفريق ثانٍ يراه تعزيراً لا حدّاً. وفريق ثالث يراه منسوخاً، فلا هو حد ولا تعزير، بل هو تشريع انتهى تماماً، ولا يقبل عودته من باب التشريع الإسلامي.
 
وغالب أدلة النفاة واحدة، إلا أنها تختلف قليلاً لمن يقول بنسخ الرجم، فيأتي بأدلة إضافية تثبت نسخه، أو انتهاء تشريعه، أو أن التشريع وقف عند مرحلة معينة، هي نزول سورة النور.

وأميل إلى القول بأنه لا رجم للزناة مطلقاً، على أساس أن التشريع وقف عند مرحلة سورة النور، وانتهى إليها، وهو الجلد فقط لجميع الزناة، محصنين وغير محصنين، ولي على ذلك أدلة أذكرها بالتفصيل إن شاء الله.

1 ـ المتوقفون في الرجم مع الميل لرفضه:

هناك فئة توقفت في الرجم، لكنها لم تخفِ شكوكاً حوله، وألمحت إلى الرفض بطرف خفي، وإن كان أقرب إلى نفيه؛ ومن هؤلاء:
 
1 ـ محمد الخضري: 

من هؤلاء العلامة الشيخ محمد الخضري، وذلك في كتابه: (تاريخ التشريع الإسلامي)؛ إذ يقول: (فرض الله حد الزاني في القرآن مائة جلدة بدون تفصيل، فقال تعالى في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وجعل الأمة الزانية على النصف من ذلك، فقال الله تعالى في سورة النساء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.

وقد وردت السنة برجم الزاني المحصن، وقد ورد في صحيح مسلم أن أبا إسحاق الشيباني سأل عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: بعدما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال لا أدري)(1) .

والذي دلنا على كلام الشيخ الخضري ورأيه: ما كتبه الشيخ محمد أبو زهرة؛ فقد سأله أحد قراء مجلة (لواء الإسلام) عن ثبوت الرجم بأحاديث آحاد، فهل يمكن لأحد أن يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها لظروف خاصة؟ فأجاب الشيخ أبو زهرة، وفي نهاية إجابته وردت هذه الفقرة: (لعل المستفتي قد اطلع على ما كتبه الأستاذ المرحوم الشيخ محمد الخضري في كتابه: (تاريخ التشريع الإسلامي)؛ فإن الأستاذ كتب كلمة يفهم منها أنه يشك في رجم الزاني المحصن وإن كان لم يقل ذلك صريحاً)(2) .

2 ـ إسماعيل سالم عبد العال:

ومن هؤلاء كذلك: الدكتور إسماعيل سالم عبد العال، في كتابه: (نفاة الرجم وفقه آية التنصيف)؛ فبعد أن جاء بأقوال المفسرين والفقهاء في آية سورة النساء، حول عقوبة الإماء إذا زنين بعد الإحصان، ختم بحثه بهذه العبارات:
 
(لكن قد يسأل سائل هنا: كيف يأمر الله بعقوبة لا تنتصف، ثم يلجأ إلى العقوبة التي يمكن تنصيفها وهي الجلد، فيسقط الرجم كله عند الجمهور؟ ويبقى الجلد، خلافاً لأبي ثور الذي جبر النصف إلى الكل فأوجب الرجم؟! ثم إن الرجم يسقط أيضاً عند من يجمع بين العقوبتين للزاني المحصن كما روي عن علي بن أبي طالب وكما هو رأي الظاهرية.

فعند الجمهور يأتي البدل الذي يتنصف ويطرح الرجم، وعند الذين يجمعون بين العقوبتين يطرح الرجم (أشد العقوبتين) ويبقى الجلد!!

ألا ترى أن هذا يضع علامة استفهام أمام عقوبة الرجم؟

 

أميل إلى القول بأنه لا رجم للزناة مطلقاً، على أساس أن التشريع وقف عند مرحلة سورة النور، وانتهى إليها، وهو الجلد فقط لجميع الزناة، محصنين وغير محصنين، ولي على ذلك أدلة أذكرها بالتفصيل


لقد فر كثير من الفقهاء من ذلك المعنى المشار إليه لورود الرجم في السنة، ولكن هذا المعنى نفسه هو معتمد قوي لنفاة الرجم قديماً وحديثاً، وأعيد مرة أخرى كلمة ابن قتيبة السابقة: (إن المحصنات لو كنّ في هذا الموضع ذوات الأزواج لكان ما ذهبوا إليه (الخوارج نفاة الرجم) صحيحاً ولزمت الحجة).

وهو نفس ما ذهب إليه نفاة الرجم في العصر الحديث.

إن لفظ (المحصنات) مشترك يصح فيه هذا المعنى، وذاك المعنى، وليس هناك قرينة في سياق الآية تبطل بشكل قطعي أن يكون معنى المحصنات: الحرائر المتزوجات، وبخاصة أن استعمال المحصنة بمعنى المتزوجة هو الشائع الكثير على ألسنة الفقهاء والناس. فما الذي يمنع من صحة هذا الرأي إذا كانت القرينة في الآية تؤيده؟!

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الآية تقرر بدلالة الإشارة، أو بدلالة التضمن، أن عقوبة المتزوجات من الحرائر هي الجلد لا الرجم.

إنها على كل حال معتمد قوي لنفاة الرجم قديماً وحديثاً، أو قل: شبهة قوية – على أقل تقدير – أمام عقوبة الرجم، وبخاصة إذا ضم إلى ذلك عقوبة الأيم الثيب التي فقدت الحصنين معاً: البكارة والزوجية بطلاق أو موت، إذ لم يثبت في حديث صحيح صريح أن عقوبة الأيم الثيب هي الرجم، وقد قطع الشيخ أبو زهرة أنه لا نص يمنع أن تكون عقوبتها أخف العقوبتين، ولأن العقوبة المشددة (الرجم) لم يثبت تطبيقها على مثل هذه الحالة.

وقد شغلت نفسي فترة من الزمن بعقوبة الرجم وجمعت مادة علمية كبيرة من كتب الفقه والتفسير والحديث، ولم أجد فيها نصاً يوجب رجم الأيم الثيب، مما يجعلنا نعيد النظر في قضية الإحصان وشروطها، وأن تكون العقوبة للأيم الثيب ـ كما قال الشيخ أبو زهرة ـ أخف العقوبتين؛ وما الذي يمنع من ذلك ولم يوجد نص يدرجها تحت عقوبة الرجم؟

أخيراً: إذا كانت آية التنصيف دليلاً قوياً لنفاة الرجم فإن السؤال الذي يرد على الخاطر هو: ألم يثبت حد الرجم بالسنة؟

والإجابة: بلى. ولكن هل تلك الأحاديث متواترة لفظاً ومعنى؟ أم معنى فقط؟ أم هي أخبار آحاد؟ وإذا كانت أخبار آحاد فهل تثبت مع ملاحظة أن القرآن عبّر عن عقوبة الجلد بما يدل على أنها أقسى عقوبة للزنى حين قال في صدر سورة النور: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}؟ 

وهل الوقائع التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل نزول آية الجلد أم بعدها؟ وإذا كانت قبل نزول آية النور، فهل يعني هذا أن العقوبة طبقت اتباعاً لشريعة التوراة ثم جاءت عقوبة الجلد قاضية على الرجم، وبخاصة أن أول زانيين رجما كانا يهوديين؟ وهل إذا صح هذا يكون من قبيل العفو ورفع الإصر؟ وإذا كانت الوقائع بعد آية الجلد ففيمَ الخلاف إذن، وبخاصة إذا كان بعض الخلفاء الراشدين قد طبق عقوبة الرجم؟! وما شروط الإحصان الذي يوجب الحد؟..

إن هذه الأسئلة وأشباهها مما يتصل بعقوبة الرجم يحتاج إلى بحثٍ آخر. ولعل الله يوفقنا إلى تأليفه، ويمنّ علينا بتوفيقه)(3) .

نقلت هنا كلام من توقفوا في الرجم وتشككوا فيه، ووضعوا أسئلة أمامهم، لا ندري هل أكملوا التفكير فيها، وانتهوا لقناعة ولم يعلنوها؟ أم لم يصلوا لنتيجة وظلوا متوقفين في رأيهم، وإن كان التوقف هنا أقرب للرفض منه للقبول؟ هذا في علم الله سبحانه وتعالى، ونذكر في مقالنا القادم إن شاء الله، أسماء من صرحوا برفض الرجم كحد من الحدود الشرعية.

الهوامش:


1 ـ انظر: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري، ص: 83.
2 ـ انظر: مجلة لواء الإسلام، السنة الثامنة، العدد السادس، الصادر في صفر سنة 1374هـ - تشرين الأول/أكتوبر سنة 1954م، ص: 386. نقلاً عن: (فتاوى الشيخ محمد أبو زهرة)، جمع وتحقيق د. محمد عثمان شبير، ص: 671.
3 ـ انظر: نفاة الرجم وفقه آية التنصيف للدكتور إسماعيل سالم عبد العال، ص: 38 ـ 40.

Essamt74@hotmail.com