مقالات مختارة

فلسطين.. تعدد الاحتلالات

1300x600

مع أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يحدث ضمن منطقة جغرافية صغيرة نسبيا، فإنه يحظى باهتمام سياسي وإعلامي كبير؛ نظرا لتورط العديد من الأطراف الدولية فيه، بل وغالبا ما تنخرط دول عظمى في الصراع، لحساسية العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وغنى بلدانهما بالثروات الطبيعية الكثيرة، حتى باتت قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي القضية المركزية في المنطقة، ببعديها العربي والإسلامي.

الاحتلال العسكري، يتم من قبل سلطة ما على إقليم مستقل، وعندئذ يعرّف الإقليم باسم الأرض المحتلة، غير أن ما تواجهه فلسطين التاريخية تعدى مسألة الاحتلال العسكري المعتاد، الذي غالبا لا يطالب بالسيادة الدائمة على الأرض المحتلة، مع اقتصار حقوق المواطنة على السلطة المسيطرة، التي لا تمنح سكان الأرض المحتلة جنسيتها، ومثل هذا الاحتلال مارسته كثير من الإمبراطوريات والدول قديما وحديثا، فنجدها تحتل الأرض لنهب خيراتها، ولجعلها قاعدة لأمن «المركز» الذي جاءت منه جيوشها، وطبعا مع إخضاع شعوب وأراضي البلاد المحتلة وثرواتها للاستغلال، وتتلخص أنواع الاحتلال في الأنماط التالية:

1- الاحتلال العسكري المباشر؛ ففي عام 1917 احتلت القوات البريطانية فلسطين، وفرضت عليها حكما كولونياليا، الأمر الذي أثار الابتهاج في أوروبا، إذ وقعت القدس تحت السيطرة الغربية لأول مرة منذ أكتوبر 1187، ومنذ بداية احتلالها، أعلنت بريطانيا أن من أهدافها تحقيق «وعد بلفور»، أي فتح باب هجرة اليهود إلى فلسطين، وإقامة «بيت قومي» لهم فيها، بل وتشجيعهم ودعمهم كي تؤمن السيطرة على الضفة الشرقية لقناة السويس، وتمزق العرب بزراعة كيان، يضمن أيضا التخلص من اليهود في أوروبا عموما، وحينئذ، تم تأسيس وتشكيل منظمات مثلت نواة لما سيعرف لاحقا باسم «جيش الدفاع الإسرائيلي»، ومن هذه المنظمات الإرهابية في فلسطين «حرس المستعمرات» (هاشومير)، ثم «الهاجاناه» وأداتها الفاعلة «البالماخ»، الذراع العسكرية للمنظمة الصهيونية العالمية، وكذلك «الأرغون» و«شتيرن» اللتان اعتبرتهما السلطات الإنجليزية منظمات إرهابية.

2- الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المتمم لسابقه، وهو الأخطر لأن هدفه غرس نفسه بعد الاستيلاء على الأرض، واستغلال سكانها واقتلاعهم من أراضيهم وديارهم بالإبادة أو التهجير، وعمل هذا النوع من الاستعمار على تحويل فلسطين إلى «أرض بلا شعب»، لجعلها أرضا خالصة له من دون أهلها! وقد توسّع هذا الاحتلال في الضفة الغربية منذ عام 1967، حيث تحين المستوطنون، بدعم من الحكومات الإسرائيلية، الفرص لتنفيذ مخططاتهم بأيديهم، بعد أن أوجدوا لأنفسهم بنية تنظيمية «شعبية»، وتوغلوا في معظم مفاصل الدولة الصهيونية، سواء أكانت تشريعية أم تنفيذية أم قضائية، بل حتى داخل المؤسسة العسكرية الأمنية الإسرائيلية، وقد تفاقم خطر هؤلاء بعد أن تعمق لديهم خطاب صهيوني ديني قومي متطرف يبرر التطهير العرقي والديني، مستغلين وجود ممثليهم في الحكومة، وزيادة عددهم في الجيش، إضافة إلى ازدياد الدعم الرسمي ممثلا بالحكومة والكنيست (البرلمان الإسرائيلي).

3- الاحتلال الاقتصادي المباشر وغير المباشر، والذي يضمن سيطرة الاحتلال على الثروات، وبحسب تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد» نهاية عام 2019، فإن «هذا الاحتلال حرم الفلسطينيين من استغلال موارد النفط والغاز في قطاع غزة والضفة الغربية، كما حرم الفلسطينيين من مليارات الدولارات، ومن فرص إنمائية ثمينة، وستزداد هذه الخسائر، وسيتواصل ارتفاع التكاليف الاقتصادية للاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني»، كذلك اغتصب الاحتلال الإسرائيلي مناحي الحياة ووسائلها، وأهمها المياه، فسيطر على مصادرها وحرم الفلسطينيين منها، وحارب المزارع الفلسطيني، سواء في فلسطين 1948 أو في الضفة والقطاع، وكل ذلك بهدف إلغاء الوجود الفلسطيني المرتبط أساسا بالأرض.

4- الاحتلال الثقافي، ويهدف إلى نهب ومسح تاريخ فلسطين، بل وذاكرة الفلسطيني الذي يعتز بتاريخه ولغته وثقافته العربية، وتدرك الدولة الصهيونية جيدا أنه ما لم يتم مسح هذه الذاكرة الحية، لن تتمكن يوما من الوصول إلى غايتها، متمثلة في إلغاء الهوية العربية الإسلامية للشعب الفلسطيني، ومن هنا تظهر خطورة «قانون القومية» الذي ينقل الحال من وضع عنصري «بالواقع» المعاش إلى حالة تكريس وتشريع «الواقع» العنصري، وبذلك يصبح الفلسطيني داخل أرضه غريبا لاجئا، يواجه محاولة نسف وجوده السياسي والثقافي، كحقيقة قديمة جديدة على أرض فلسطين التاريخية، وكانت فلسطين التاريخية شاهدا على الوجود البشري والحضاري الفلسطيني المفعم بالحياة، وهذا ما ينقض زعم الصهيونية: «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»!

 

لذلك، يمارس الاحتلال العسكري والاستيطاني سياسة التطهير العرقي، والتي تتواصل حتى اليوم، عبر عملية تطهير عرقي غير تقليدية ذات نفس طويل، جوهره التوسع الاستعماري على الأرض، حتى ولو أدى ذلك إلى إبادة السكان أصحاب الأرض، فالصهيونية هدفها احتلال وطن الشعب الفلسطيني، ليحل محلهم يهود الحركة الصهيونية بمختلف أطيافها.

(الاتحاد الإماراتية)