قضايا وآراء

السودان.. تطبيعٌ من نوعٍ آخر

1300x600
ذهبَ إلى أوغندا لبحث مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، وإذ به يعود وبيدهِ مسوّدة التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسط حالة من الاستهجان في صفوف المواطنين السودانيين، لا سيما مناصري الثورة السودانية التي أطاحت بحكم عمر البشير..

تلك هي نتائج الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان، الذي التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الاثنين الفائت، حيث اتفق الطرفان على الدخول في مرحلة جديدة من العلاقات بين السودان ودولة الاحتلال، تبدأ مع بادرة من السودان تتمثّل في سماحه للطائرات الإسرائيلية عبور أجواء البلاد..

لماذا يُستهجَن تطبيع السودان مع دولة الاحتلال دون بقية الدول؟

حالة الاستغراب التي أحدثها هذا الخبر تختلف عن بقية حالات التطبيع في العالم العربي وذلك لعدة أسباب، فالسودان لم يتعافَ بعد من تَبِعات الإطاحة بالبشير، والتوقعات كانت تشير إلى أن يتجه السودان إلى الالتفاف حول الحقوق الفلسطينية المشروعة، لا أن يفرّط بها بشكل مباشر وغير مسبوق. ثم إنّ جميع العقوبات الاقتصادية والجنائية المفروضة على السودان هي ليست بسبب القضية الفلسطينية على الإطلاق، وليست بسبب علاقته مع بعض حركات المقاومة الفلسطينية، بل هي بعيدة كل البعد عن هذا المنطق، لأنها فُرِضت عليه بسبب ما سمّته الولايات المتحدة الأمريكية بأنها جرائم حرب ارتكبتها الحكومة السودانية في دارفور، لكنّ الإدارة الأمريكية الجديدة بدأت في الآونة الأخيرة دراسة مقترح رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، على الرغم من استيائها من بعض النقاط في السياسة الخارجية السودانية، وبالتالي لا علاقة لفلسطين وللشعب الفلسطيني بكل ما يمس السودان من عقوبات وأضرار.

ولهذا يُستجهن أن يتجه السودان في الوقت الحالي للتطبيع مع دولة الاحتلال. فالتوقيت غير مناسب على الإطلاق، فصفقة القرن على الأبواب، والشعب الفلسطيني ما يزال يعيش حالة الاستياء والصدمة من القرارات الأمريكية الأخيرة التي تصب في صالح الاحتلال، والجرح الفلسطيني ما يزال نازفاً. ولا يوجد أيّ تراشق إعلامي أو لفظي بين الطرفين السوداني والفلسطيني، كما هو الحال مع السعودية على سبيل المثال، حيث بدأت الحساسية بين الشعبين تظهر للعلن، وقد بلغت ذروتها مع زيارة المُطبّع السعودي محمد سعود للأراضي الفلسطينية تحت حماية جنود الاحتلال، واستضافته لصحفيين إسرائيليين في منزله في السعودية، ودعمه لبنيامين نتنياهو في حملته الانتخابية. ومن هنا بدأ التراشق على منصات التواصل الاجتماعي، في حين غابت كل هذه المظاهر بين السودان وفلسطين، ولهذا ظهرت للعلن علامات الصدمة والاستغراب من اتجاه السودان للتطبيع مع دولة الاحتلال..

هل التبريرات التي قدمها عبد الفتاح البرهان مُقنِعة؟

حاول عبد الفتاح البرهان تقديم جملة من المبررات تجاه هذه الخطوة التي قام بها، لأنه كان على يقين تام بأنّ خطوته هذه، سوف تواجه غضباً شعبياً وحكومياً، تمثل في تقديم مدير السياسة الخارجية رشاد السراج لاستقالته، بعد الرسالة الوطنية التي أبرقها إبان استقالته، ولهذا قال البرهان إنّ اتجاهه للتطبيع يصب في صالح الفلسطينيين ويسعى لحل مشكلاتهم، متناسياً أنّ الفلسطينيين أنفسهم ضد التطبيع ويقولون إنهم لا يريدونه حتى لو كان سبيلهم الوحيد للخلاص من المشكلات المترتبة عليهم، فلماذا يريد عبد الفتاح البرهان أن يكون ملكيّاً أكثر من الملك نفسه؟ ولماذا يُظهِر هذا الحرص الزائد على القضية الفلسطينية؟!

ثم ذهب البرهان إلى أبعد من ذلك، حين قال إنّ إسرائيل مثل سويسرا، وكأن سويسرا هي التي هجّرت شعباً بأكمله، وهي التي تحاصر قطاع غزة وتمارس كافة أشكال العدوان على الشعب الفلسطيني ومقدّساته وثوابته الوطنية. فالمقارنة غير منطقية على الإطلاق، ولكنها بضاعةٌ مُزجاة أتى بها عبد الفتاح البرهان ليبرر التطبيع، لدرجة أنه حاول أن يبرر صنيعه من خلال القول إن السلطة الفلسطينية ذاتها تعترف بدولة الاحتلال وبينهما علاقات وتنسيق أمني واسع النطاق.

وبهذا القول يضع البرهان نفسه في موقع الانتقاد أيضاً، فالسلطة الفلسطينية كثيراً ما كانت تتعرض للانتقاد واللوم بسبب هذه الخطوة، كما أن قسماً من الشعب الفلسطيني لا تروق له مثل هذه الخطوات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية. وفي نهاية المطاف فإنّ السلطة الفلسطينية لا تملك مقومات دولة كاملة، وليس لديها قدرات عسكرية واقتصادية للتحلّل من هذا العبء الإسرائيلي، بينما يمتلك السودان مثل هذه المقومات التي تجعله بلداً كامل المقوّمات..

تُرى هل سوف يصرّ عبد الفتاح البرهان على انتهاج سياسة التطبيع، بحيث نشهد توتراً في العلاقات بين البلدين الشقيقين والشعبين العربيين، أم أنّ جملة الانتقادات والضغوطات ستدفع بالبرهان إلى العدول عن قراراته؟