قضايا وآراء

اعتصام رابعة.. الدراما القاتلة

1300x600
بينما يعيش الشعب المصري أزمة وجودية مع إصرار إثيوبيا على الملء الثاني لسد النهضة في تموز/ يوليو المقبل، فإن نظام السيسي وبدلا من مواجهة غطرسة إثيوبيا يستأسد مجددا على جزء من شعبه بفتح جراح لم تندمل بعد، منذ مذبحتي رابعة العدوية والنهضة يوم 14 آب/ أغسطس 2013، وهي رسالة طمأنة قوية لإثيوبيا بأنه غير جاد في تهديداته بعمل عسكري ضدها؛ كان يقتضي حشدا للجبهة الداخلية وتوحيدا للصف الوطني لا تمزيقا له.

على مدار 45 يوما هي عمر الاعتصام في الميدانين لم يتوقف الإعلام المصري عن تشويه صورة الاعتصام ونشر دعايات كاذبة ومضللة عنه؛ من صنع خيال بعض الإعلاميين أو صنع الأجهزة الأمنية التي تغذيهم بتلك الأكاذيب، ومع فض الاعتصام اتضح للجميع زيف هذه الأكاذيب ولكن أذرع النظام الانقلابي ظلت ترددها حتى الآن، بل صنعت مسلسلا دراميا لتسويق روايتها الزائفة عنه، وهو "الاختيار 2" الذي يذاع حاليا على القنوات المصرية وبعض القنوات الأخرى.

منذ الأيام الأولى للاعتصام كان هناك حرص من سلطة الانقلاب على التعتيم الإعلامي الكامل على الاعتصام ومنع وصول وسائل الإعلام إليه وعدم تمكينها من نقل وقائعه، وفي الوقت نفسه نشر وبث أكاذيب كثيرة حوله. ولكن هذه المساعي تحطمت سريعا بجهود المعتصمين ومن بينهم إعلاميين وفنيين ومهندسي اتصالات، وأصبحت هناك عشرات القنوات التي تبث فعاليات الاعتصام للعالم كله على مدار 24 ساعة يوميا.
منذ الأيام الأولى للاعتصام كان هناك حرص من سلطة الانقلاب على التعتيم الإعلامي الكامل على الاعتصام ومنع وصول وسائل الإعلام إليه وعدم تمكينها من نقل وقائعه، وفي الوقت نفسه نشر وبث أكاذيب كثيرة حوله

في الحديث عن المسارات الإعلامية الخاصة بالاعتصام يمكننا الحديث عن المسار العسكري الحاكم وداعميه، ومسارات المعتصمين وداعميهم. فالنظام الانقلابي سعى في البداية كما ذكرنا للتعتيم الإعلامي على الاعتصام وحرمانه من أي تغطية إعلامية، وحين فشل في ذلك بدأ عمليات التشويه ونشر شائعات كاذبة، مثل تسليح الاعتصام بأسلحة ثقيلة، ووجود مقابر جماعية سواء أسفل المنصة أو في أماكن أخرى لقتلى على أيدي المعتصمين، أو فرية نكاح الجهاد، أو انتشار الجرب بين المعتصمين، أو منع الإعلاميين والحقوقيين من الدخول، أو منع بعض المشاركين من الانصراف، أو مضايقة أهالي منطقة رابعة بسلوكيات سلبية، أو تنميط المعتصمين وإظهارهم أنهم يمثلون الشرائح الدنيا في المجتمع المصري من الفلاحين والعمال والصعايدة والحرفيين، وربات البيوت، وخدم البيوت أيضا، وتوزيع مقابل نقدي للمعتصمين.. الخ. وهي أكاذيب لم يقدم النظام وأذرعه دليلا عليها، بل اعترف وزير الداخلية يوم الفض بضبط تسع قطع (سلاح آلي وطبنجة) وخمسة فرد خرطوش فقط، بينما كان الحديث كثيفا عن وجود مدافع فوق أسطح بعض البنايات، ولم تظهر بعد الفض أي مقابر من تلك المزعومة الخ.

في المسارات الإعلامية المقابلة كانت هناك عدة مشاهد؛ أولها قدرة المعتصمين (مهندسين اتصالات وفنيين واعلاميين) على كسر التعتيم الإعلامي من خلال فك شفرات سيارة البث التابعة للتلفزيون المصري، والتي كان أرسلها وزير الإعلام صلاح عبد المقصود يوم 28 حزيران/ يونيو (قبل الانقلاب بخمسة أيام) لتغطية الاعتصام، حيث تم تشعيل البث وفتحه لكل القنوات الراغبة في النقل والتي لامست 300 قناة عبر العالم، وظلت تلك السيارة في حماية المعتصمين على مدار اليوم خوفا من أي محاولات لتعطيلها، كما نجح أبناء قناة "مصر 25" (الناطقة باسم الإخوان) بعد إغلاق قناتهم في تأسيس قناة جديدة باسم "أحرار 25"، واتخذت من إحدى غرف جمعية رابعة مقرا لها، وفي نفس الوقت كانت قناة الجزيرة تبث فعاليات الاعتصام على مدار الساعة، وكل ذلك نجح في إيصال صوت المعتصمين إلى كل العالم بما في ذلك لحظات الفض نفسها.

تأسست في الاعتصام حركة صحفيون ضد الانقلاب وكانت واحدة من أنشط الحركات، وكان لها خيمتها المعروفة في اعتصام رابعة وكذا في اعتصام النهضة، يتردد عليها الصحفيون المعتصمون أو الزائرون، وتساعدهم في تغطية الاعتصام، وقد أطلقت هذه الحركة دعوة مفتوحة للصحفيين والإعلاميين - الذين بثوا ونشروا معلومات خاطئة - للحضور إلى الميدان، ونقل الصورة كاملة مع توفير كل التسهيلات اللازمة لهم، بدءا من استقبالهم على مداخل الاعتصام وإيصالهم إلى أي مكان يرغبون الوصول إليه وتصويره، أو الحديث مع أي قيادي داخل الميدان. وقد استجاب لهذه المبادرة بعض الصحفيين لكنهم لم يستطيعوا نقل مشاهداتهم الحقيقية؛ لأنها كانت تصطدم مع سياسات التحرير لصحفهم الراغبة في تشويه الاعتصام.

في الوقت نفسه تأسس داخل الاعتصام المركز الإعلامي الذي كان يقوم بتصوير فعاليات الاعتصام المختلفة (سياسية وفنية ومعيشية.. إلخ) ونشرها وإمداد القنوات والصحف والمواقع بها، وتوفير الخدمات اللوجستية لأي إعلامي مصري أو اجنبي يغطي الاعتصام، كما قام المركز بعقد العديد من المؤتمرات الصحفية لقادة الاعتصام والتي حضرها بعض المراسلين الأجانب.

يوم الفض (14 آب/ أغسطس) استهدف قناصة الداخلية المصورين الصحفيين الذين كانوا يقومون بدورهم في تغطية الحدث، فقتلوا أحمد عبد الجواد (صحيفة الأخبار ومراسل قناة مصر 25) وحبيبة عبد العزيز (صحيفة جلف نيوز)، ومصعب الشامي (شبكة رصد) ومايك دين (مصور قناة سكاي نيوز العالمية)، كما أصابوا عددا آخر من المصورين تماثلوا للشفاء لاحقا. كان هناك حرص أمني على فرض التعتيم الإعلامي بقدر المستطاع على عملية الفض (باستثناء رواية الداخلية والإعلاميين المصاحبين لها)، ولذا فقد كانت سيارة البث التابعة للتلفزيون هي أول المستهدفات بالسيطرة السريعة، وكذا قناة "أحرار 25" التي تبث من الميدان، وقنص المصورين كما ذكرنا. وبالفعل توقف بث القنوات بعد ساعات قليلة من بدء عملية الفض التي استغرقت 12 ساعة، لكنها كانت قد نقلت فظائع الفض، وانهمار القذائف برا وجوا، وسقوط الشهداء والمصابين، وقد تابع العالم كله ذلك على الهواء مباشرة قبل وقف البث.
في المسلسل الجديد تكرار للأكاذيب ذاتها التي صاحبت الاعتصام، وتجسيدها في مشاهد مصورة (مزيفة طبعا) لإقناع المشاهد بما فشلوا فيه من قبل، مثل وجود صناديق أسلحة وذخيرة كثيرة في الميدان، ومثل انتشار مرض الجرب بين المعتصمين، ومثل منع الراغبين في الانصراف من الاعتصام

ظلت حملات التشويه للاعتصام والمعتصمين قائمة بعد الفض عبر وسائل الإعلام التابعة للنظام، ولكنها لم تكن لتغير الحقيقة فعمدت السلطات لإنتاج مسلسل تلفزيوني رمضاني (الاختيار 2) تستكمل به مهمة التشويه، وتزييف الحقائق، وتنشر من خلاله روايتها الكاذبة للمجزرة لتحمل المسئولية للضحايا أنفسهم وليس للقتلة الفعليين الذين، والذين تضمن تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عددا من أسمائهم، وبدلا من محاكمة هؤلاء القتلة فقد تم تلفيق قضيتين للضحايا؛ أولاهما قضية المركز الإعلامي والتي ضمت 51 متهما، والثانية قضية فض رابعة والتي ضمت أكثر من 700 متهم، وصدرت ضد الجميع أحكام قاسية بعد محاكمات هزلية لم يقرأ قضاتها أوراق التحقيقات أصلا.

في المسلسل الجديد تكرار للأكاذيب ذاتها التي صاحبت الاعتصام، وتجسيدها في مشاهد مصورة (مزيفة طبعا) لإقناع المشاهد بما فشلوا فيه من قبل، مثل وجود صناديق أسلحة وذخيرة كثيرة في الميدان، ومثل انتشار مرض الجرب بين المعتصمين، ومثل منع الراغبين في الانصراف من الاعتصام.. إلخ. لكن ما فشلت فيه أذرع النظام الإعلامية من قبل لن تنجح فيه دراما تلفزيونية يعلم الجميع أنها مزيفة، ويدرك الجميع أنها فشلت في عهود سابقة في مصر نفسها، وظلت الحقيقة تطارد القتلة والكاذبين، وتقض مضاجعهم، وإذا كانوا قد أفلتوا من العقاب حتى الآن بجرائمهم فإن ملاحقتهم لن تتوقف في كل مكان يوجدون فيه، وحتى إذا نجوا من عقاب الدنيا فلن ينجوا من عدالة السماء.

twitter.com/kotbelaraby