مقالات مختارة

ألس نعمان.. مُهجرة أم مُهاجرة إنَّها لا تدري!

1300x600

توزع على القارات آلاف المسيحيين العِراقيين، وملايين مِن المسلمين والإيزيدين والصابئة المندائيين وزرادشتيين، عرباً وكورداً وسرياناً وكلدانيين وتركماناً، ومَن لا يؤمن بهذا وذاك سوى أنَّه عراقي. المسيحيون الذين اختصرتهم داعش بحرف "ن"، وفجر الإرهاب كنائسهم في سلسلة مِن أيام الأحد، واختصرهم رئيس حزب إسلامي ورئيس وزراء باسم "الجالية"، ومعلوم ما معنى الاختصار بـ "النُّون"،

مع أنَّ مصطلح النَّصارى، لولا استخدامه الفقهي في الإقصاء، لا يَعيب المسيحيين بشيء، ومعلوم ما تعنيه مفردة "الجاليَّة" مِن عدم اعتراف بالأصل والتَّعلق بالأرض، وارتباطه الفقهي أيضاً بأموال الجزيّة والغربة عن الأوطان أو الإمبراطوريات، إذا كانت تحت نير الإسلاميين.


لم تعرف ألس نعمان سفايه شيئاً في السِّياسة، شأن بقية أمهاتنا العراقيات، لكنَّهنَّ عرفنَ السِّياسة مما وقع عليهنَّ مِن جورٍ ووجع، لا يهجرنَ المنازل حتى تسقط على رؤوسهنَّ السُّقوف، أمهات قتلى ومُهجرين ومهاجرين، يتحملنَ عبث الحكومات والأحزاب، وبقية تُجار السِّياسة والدِّين والمتاجرين بالقوميَّة أيضاً على حِساب الوطنيَّة، ومِن العادة يكون التَّهجير الجماعي أرحم مِن التَّهجير الفردي، ذلك إذا لم نجد خياراً بين النّقمتين، إنه السَّبي ومراراته وعذاباته، لأنَّ الجماعة تخفف مِن آلام الغربة وقسوة الاغتراب ووحشته.


عاشت ألس عقد الثَّلاثينيات والأربعينيات وما بعدها ببغداد، حتى بدايات الحروب وطغيانها، ففجعت بصاروخ يهدم بيت فرنسيس شقيق زوجها، ويفصل رأسه عن جسده، ثم شهدت إعدام شقيقها الأكبر نجيب نعمان وكان معلماً بالحبانيَّة في الخمسينيات، عندها ارتبط بصداقة مع قريب الرئيس، فيما بعد، وكانت التُّهمة وأصحابه التّسعة ابتساماتهم وصمتهم، عندما كان صاحبهم القديم عمر الهزاع، يشتم الرَّيس، ومَن هو نجيب، أو بقية أصحابه، كي يُبلغ عن قريب الرَّئيس والقائد العسكري! احتمى في بيت شقيقته، حتى اقنع نفسه أنه لم يكن طرفاً بين الرئيس والقائد، فعاد إلى بيته وقُبض عليه، وكانت نهايته ومَن حضر ذلك المجلس.


كانت خلال حرب الثماني سنوات تذهب مع ولدها لؤي الجندي إلى السُّوق، لتجهيز بيت آمر وحدته العسكرية، على خطوط النَّار، بما تطلبه عائلة الآمر، كي يزيد إجازته يوماً أو يومين، وفي الحرب الثَّانيَّة ضاع لؤي، الذي أحب الموسيقى وأجاد بها، مع آلاف الجنود المنكسرين، حتَّى أصابها اليأس مِن وجوده حيَّاً، لكنه عاد إليها شبح إنسان.


ليس لألس نُعمان غير راتب زوجها، المحاسب في شركة آل علاوي، كنتُ أزوره فيها، بين الحين والآخر، كان لها منزل صغير بالزَّعفرانية، جنوب بغداد، غرست في حديقته نخلات البرحي وشجيرات الزَّيتون، تقطف ثمارها بيدها. تعيش وسط عائلتها، وبهم تمكنت مِن فراق ابنتها الطّويل، التي سبقتها إلى المهجر، والسَّبب مشاكسات سياسية شبابيَّة لا أكثر، لكنَّ ثمنها كان باهِضاً، وما هي إلا أيام وتستلم لقاء يوسف نبأ قتل صديقتها الجميلة ياسمين الجمالي تحت التّعذيب، وتعذيب مَن ليس لديه ما يقوله حتّماً يؤدي إلى الموت. حاولت ياسمين، التي كنتُ ألتقي بها مع لقاء في أروقة كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد، الوصول لنا بالخارج، لكنها لم تنجح، فعادت إلى بغداد ولاقت حتفها، بلا جثةٍ ولا شاهد قبر. ساعتها صار المهجر عند لقاء وطناً دافئاً حانياً، وللأمّ حماية لابنتها، وإن كان بداية المهجر مديرية لودر في أقصى صحراء اليمن الجنوبيَّة، حيث كنا نشرب الماء مِن بئر، قيل لنا أن فتاةً قُتلت ورميت جثتها فيها قبل سنوات، فصار خيالها في كأس الماء الذي نشربه. لكنّ بعد اجتياحها مِن قِبل القاعدة، صرنا نتذكر لودر كواحة تنوير، بعد حرق السينما وغلق مدرسة البنات.


لم تنس ألس نعمان نعيم بغداد، وجيرانها وحديقة منزلها، ظلت تتذكر لحظة قتل كلبها مِن قِبل جارهم المسؤول في ميليشيا "الجيش الشَّعبي"، لأنه يزعج أولاده بالنباح عندما يرمونه بالحجر، بعد سماع إطلاق النَّار يشق سكون اللّيل أفزعها مشهد الكلب هامداً، وأثر الرًّصاص في رأسه، جعلها المشهد تكظم رعبها وغيضها. أخذت تكسب رضى قطاعات الجيش الشَّعبي، فتخرج بعباءتها توزع الماء والسندويشات لأفراده، المجتمعين وراء سور المنزل، خشيةً مِن طلقة قاصدة أو تائهة مِن أسلحتهم، حتَّى جاء العذاب الأكبر، بصواريخ وقنابل الغزو، فنزحت مع النّازحين صوب الشَّام، ثم عادت، وما هي إلا شهور وينفجر بركان القتل واستباحة المنازل، بحثاً عن الكفار، وتهاجر إلى الشَّام ثانيّة، وهي الهجرة الأخيرة.


حلَّ بها المطاف وزوجها بلندن، بمعونة سخية مِن الصَّليب الأحمر، أما ولدها فبينه وبينها سفر أربعة وعشرين ساعة طيران، تمزقت عائلتها الكبيرة، على القارات، اختلف بينها وبينهم الجديدين، اللَّيل والنَّهار، واختلفت الفصول أيضاً، الشتاء عندها يكون صيفاً عند ولدها وشقيقتها وأشقائها وأسرهم، مبعثرون تحت النَّجوم، تجمعهم على بُعد أوقات المثول حول الصَّليب في كنائس مؤجرة قاعاتها، يقيم بين كل غرباء منهم قسٌ تبعثه كنائسهم بالعِراق، يرتلون أقداسهم بلغات العِراق القديمة، التي حملوها معهم أملاً بالعودةِ والحفاظ على نسيجهم الدِّيني، وقد عجزوا عن حمل أي شيء آخر.


سمعتني أم لقاء وجدة بناتي، سارة ولارا، ألس نعمان أتحدث عن مكان تاريخي اسمه "براثا"، فانتبهت إلى الكلمة، وقالت: "تقصد البنيَّة"! قلت: أقصد الجامع اسمه براثا ببغداد، قالت ما أدري، لكن أعرف أنَّ "براتا" معناها البنيَّة بالمسيحي (اعتادوا يسمون السريانية أو الكلدانية لغة مسيحية، فالناطقون بها المسيحيون فقط)، وعند العِراقيين وغيرهم "البنت" تعني العذراء، ومعلوم التاء تحل محل الثّاء، فمِن العرب مَن يلفظ مفردة تُراث تراتاً، فعلمتُ من توضيحها، أنّ هذا المسجد كان كنيسةٍ، اسمها "العذراء" وهي السَّيدة مريم. فصرتُ أعود إليها والعم يعقوب يوسف زوجها، في معرفة أسماء المدن، وما أرتبط بمقدمته حرف الباء، مثل باعذرة وبعشيقة وبرطلة وغيرها، كانت مسيمات سريانية أو آراميَّة كافة، واللغتان أختان. كان الزوجان إذا تخاصما بوجودنا يتحدثان السّريانيَّة، لكنهما لم يحسبا حِساب لقاء، التي تفهم ما يقولانه، وينتهي المشهد بالضّحك.


رحلت ألس نعمان، وهي بأمل العودة، تتذكر تفاصيل دارها، من الأشجار والأثاث، وكلبها المقتول، ظلت تحكي حكايته بألم، وبالنّسبة لها كانت بداية العنف وجهاً لوجه، حتى اكتشفت، بعد حياة السنين الطَّويلة، بين جيران مسلمين، أنها كافرة، عنوانها حرف "النّون"، ومِن الجوالي لا مِن الأُصلاء!
رحلت، مثل رحيل المئات مِن الأُمهات العراقيَّات، وهي لا تدري أكانت مُهجرة أم مهاجرة، فهذه مصطلحات لا تعنيها، ما تعرفه أنَّها خرجت مكرهةً. أما زوجها فلم يحصل مِن بلاده، التي خدمها في الوظيفة لأربعين عاماً، غير تقاعدٍ قدره مئة دولار أو أزيَد بقليل، ويُقدم، بين فترة وأخرى، صك شهادة الحياة، وكأن دائرة التَّقاعد تنتظر موته، وهو الإجراء رغم صحته، يبعث باليأس مِن الحياة نفسها. اعتقل، قبل الوظيفة، مع يوسف سلمان يوسف فهد، مؤسس الحزب الشّيوعي العراقي(1948)، وسُجن بنقرة السلمان، ونفي إلى الأهوار، سحقته السجون، أو هو سحق نفسه مِن أجل "وطن حرٌ وشعبٌ سعيد"، ولم يجدهما وقد ناف على التّسعين، إلا مدافتين بوحشة الغربة، وألم التخلي عن منزله، أما بلاده فتأتيه في أحلام اليقظة والمنام، صدىً مِن السنين الخوالي، وورقة يأخذها مِن القنصلية ليثبت بها أنَّه ما زال حيَّاً، ولا أظنه سيسعى لأخذها بعد وفاة شريكته لستين ونيف عام.

المسيحيون الذين اختصرتهم داعش بحرف "ن"، وفجر الإرهاب كنائسهم في سلسلة مِن أيام الأحد، واختصرهم رئيس حزب إسلامي ورئيس وزراء باسم "الجالية"، ومعلوم ما معنى الاختصار بـ "النُّون"،

مع أنَّ مصطلح النَّصارى، لولا استخدامه الفقهي في الإقصاء، لا يَعيب المسيحيين بشيء، ومعلوم ما تعنيه مفردة "الجاليَّة" مِن عدم اعتراف بالأصل والتَّعلق بالأرض، وارتباطه الفقهي أيضاً بأموال الجزيّة والغربة عن الأوطان أو الإمبراطوريات، إذا كانت تحت نير الإسلاميين.


لم تعرف ألس نعمان سفايه شيئاً في السِّياسة، شأن بقية أمهاتنا العراقيات، لكنَّهنَّ عرفنَ السِّياسة مما وقع عليهنَّ مِن جورٍ ووجع، لا يهجرنَ المنازل حتى تسقط على رؤوسهنَّ السُّقوف، أمهات قتلى ومُهجرين ومهاجرين، يتحملنَ عبث الحكومات والأحزاب، وبقية تُجار السِّياسة والدِّين والمتاجرين بالقوميَّة أيضاً على حِساب الوطنيَّة، ومِن العادة يكون التَّهجير الجماعي أرحم مِن التَّهجير الفردي، ذلك إذا لم نجد خياراً بين النّقمتين، إنه السَّبي ومراراته وعذاباته، لأنَّ الجماعة تخفف مِن آلام الغربة وقسوة الاغتراب ووحشته.


عاشت ألس عقد الثَّلاثينيات والأربعينيات وما بعدها ببغداد، حتى بدايات الحروب وطغيانها، ففجعت بصاروخ يهدم بيت فرنسيس شقيق زوجها، ويفصل رأسه عن جسده، ثم شهدت إعدام شقيقها الأكبر نجيب نعمان وكان معلماً بالحبانيَّة في الخمسينيات، عندها ارتبط بصداقة مع قريب الرئيس، فيما بعد، وكانت التُّهمة وأصحابه التّسعة ابتساماتهم وصمتهم، عندما كان صاحبهم القديم عمر الهزاع، يشتم الرَّيس، ومَن هو نجيب، أو بقية أصحابه، كي يُبلغ عن قريب الرَّئيس والقائد العسكري! احتمى في بيت شقيقته، حتى اقنع نفسه أنه لم يكن طرفاً بين الرئيس والقائد، فعاد إلى بيته وقُبض عليه، وكانت نهايته ومَن حضر ذلك المجلس.


كانت خلال حرب الثماني سنوات تذهب مع ولدها لؤي الجندي إلى السُّوق، لتجهيز بيت آمر وحدته العسكرية، على خطوط النَّار، بما تطلبه عائلة الآمر، كي يزيد إجازته يوماً أو يومين، وفي الحرب الثَّانيَّة ضاع لؤي، الذي أحب الموسيقى وأجاد بها، مع آلاف الجنود المنكسرين، حتَّى أصابها اليأس مِن وجوده حيَّاً، لكنه عاد إليها شبح إنسان.


ليس لألس نُعمان غير راتب زوجها، المحاسب في شركة آل علاوي، كنتُ أزوره فيها، بين الحين والآخر، كان لها منزل صغير بالزَّعفرانية، جنوب بغداد، غرست في حديقته نخلات البرحي وشجيرات الزَّيتون، تقطف ثمارها بيدها. تعيش وسط عائلتها، وبهم تمكنت مِن فراق ابنتها الطّويل، التي سبقتها إلى المهجر، والسَّبب مشاكسات سياسية شبابيَّة لا أكثر، لكنَّ ثمنها كان باهِضاً، وما هي إلا أيام وتستلم لقاء يوسف نبأ قتل صديقتها الجميلة ياسمين الجمالي تحت التّعذيب، وتعذيب مَن ليس لديه ما يقوله حتّماً يؤدي إلى الموت. حاولت ياسمين، التي كنتُ ألتقي بها مع لقاء في أروقة كلية الإدارة والاقتصاد جامعة بغداد، الوصول لنا بالخارج، لكنها لم تنجح، فعادت إلى بغداد ولاقت حتفها، بلا جثةٍ ولا شاهد قبر. ساعتها صار المهجر عند لقاء وطناً دافئاً حانياً، وللأمّ حماية لابنتها، وإن كان بداية المهجر مديرية لودر في أقصى صحراء اليمن الجنوبيَّة، حيث كنا نشرب الماء مِن بئر، قيل لنا أن فتاةً قُتلت ورميت جثتها فيها قبل سنوات، فصار خيالها في كأس الماء الذي نشربه. لكنّ بعد اجتياحها مِن قِبل القاعدة، صرنا نتذكر لودر كواحة تنوير، بعد حرق السينما وغلق مدرسة البنات.


لم تنس ألس نعمان نعيم بغداد، وجيرانها وحديقة منزلها، ظلت تتذكر لحظة قتل كلبها مِن قِبل جارهم المسؤول في ميليشيا "الجيش الشَّعبي"، لأنه يزعج أولاده بالنباح عندما يرمونه بالحجر، بعد سماع إطلاق النَّار يشق سكون اللّيل أفزعها مشهد الكلب هامداً، وأثر الرًّصاص في رأسه، جعلها المشهد تكظم رعبها وغيضها. أخذت تكسب رضى قطاعات الجيش الشَّعبي، فتخرج بعباءتها توزع الماء والسندويشات لأفراده، المجتمعين وراء سور المنزل، خشيةً مِن طلقة قاصدة أو تائهة مِن أسلحتهم، حتَّى جاء العذاب الأكبر، بصواريخ وقنابل الغزو، فنزحت مع النّازحين صوب الشَّام، ثم عادت، وما هي إلا شهور وينفجر بركان القتل واستباحة المنازل، بحثاً عن الكفار، وتهاجر إلى الشَّام ثانيّة، وهي الهجرة الأخيرة.

 

حلَّ بها المطاف وزوجها بلندن، بمعونة سخية مِن الصَّليب الأحمر، أما ولدها فبينه وبينها سفر أربعة وعشرين ساعة طيران، تمزقت عائلتها الكبيرة، على القارات، اختلف بينها وبينهم الجديدين، اللَّيل والنَّهار، واختلفت الفصول أيضاً، الشتاء عندها يكون صيفاً عند ولدها وشقيقتها وأشقائها وأسرهم، مبعثرون تحت النَّجوم، تجمعهم على بُعد أوقات المثول حول الصَّليب في كنائس مؤجرة قاعاتها، يقيم بين كل غرباء منهم قسٌ تبعثه كنائسهم بالعِراق، يرتلون أقداسهم بلغات العِراق القديمة، التي حملوها معهم أملاً بالعودةِ والحفاظ على نسيجهم الدِّيني، وقد عجزوا عن حمل أي شيء آخر.


سمعتني أم لقاء وجدة بناتي، سارة ولارا، ألس نعمان أتحدث عن مكان تاريخي اسمه "براثا"، فانتبهت إلى الكلمة، وقالت: "تقصد البنيَّة"! قلت: أقصد الجامع اسمه براثا ببغداد، قالت ما أدري، لكن أعرف أنَّ "براتا" معناها البنيَّة بالمسيحي (اعتادوا يسمون السريانية أو الكلدانية لغة مسيحية، فالناطقون بها المسيحيون فقط)، وعند العِراقيين وغيرهم "البنت" تعني العذراء، ومعلوم التاء تحل محل الثّاء، فمِن العرب مَن يلفظ مفردة تُراث تراتاً، فعلمتُ من توضيحها، أنّ هذا المسجد كان كنيسةٍ، اسمها "العذراء" وهي السَّيدة مريم. فصرتُ أعود إليها والعم يعقوب يوسف زوجها، في معرفة أسماء المدن، وما أرتبط بمقدمته حرف الباء، مثل باعذرة وبعشيقة وبرطلة وغيرها، كانت مسيمات سريانية أو آراميَّة كافة، واللغتان أختان. كان الزوجان إذا تخاصما بوجودنا يتحدثان السّريانيَّة، لكنهما لم يحسبا حِساب لقاء، التي تفهم ما يقولانه، وينتهي المشهد بالضّحك.


رحلت ألس نعمان، وهي بأمل العودة، تتذكر تفاصيل دارها، من الأشجار والأثاث، وكلبها المقتول، ظلت تحكي حكايته بألم، وبالنّسبة لها كانت بداية العنف وجهاً لوجه، حتى اكتشفت، بعد حياة السنين الطَّويلة، بين جيران مسلمين، أنها كافرة، عنوانها حرف "النّون"، ومِن الجوالي لا مِن الأُصلاء!
رحلت، مثل رحيل المئات مِن الأُمهات العراقيَّات، وهي لا تدري أكانت مُهجرة أم مهاجرة، فهذه مصطلحات لا تعنيها، ما تعرفه أنَّها خرجت مكرهةً. أما زوجها فلم يحصل مِن بلاده، التي خدمها في الوظيفة لأربعين عاماً، غير تقاعدٍ قدره مئة دولار أو أزيَد بقليل، ويُقدم، بين فترة وأخرى، صك شهادة الحياة، وكأن دائرة التَّقاعد تنتظر موته، وهو الإجراء رغم صحته، يبعث باليأس مِن الحياة نفسها. اعتقل، قبل الوظيفة، مع يوسف سلمان يوسف فهد، مؤسس الحزب الشّيوعي العراقي(1948)، وسُجن بنقرة السلمان، ونفي إلى الأهوار، سحقته السجون، أو هو سحق نفسه مِن أجل "وطن حرٌ وشعبٌ سعيد"، ولم يجدهما وقد ناف على التّسعين، إلا مدافتين بوحشة الغربة، وألم التخلي عن منزله، أما بلاده فتأتيه في أحلام اليقظة والمنام، صدىً مِن السنين الخوالي، وورقة يأخذها مِن القنصلية ليثبت بها أنَّه ما زال حيَّاً، ولا أظنه سيسعى لأخذها بعد وفاة شريكته لستين ونيف عام.

 

(عن صحيفة المدى العراقية)