قضايا وآراء

سيناريوهات ما بعد رحيل الرئيس محمود عباس

1300x600
نبذة

لم يعد التعقيد محصورا في القضية الفلسطينية كأقدم حالة احتلال، ولكن العالم بمجمله يعاني من حالة التعقيد هذه. فما يجري في أوروبا من حرب بين روسيا وأوكرانيا، والاضطراب الصيني الأمريكي والصراع الإيراني الأمريكي وغير ذلك الكثير؛ يضع القوي كما الضعيف في حالة من الإرباك والاضطراب. فالولايات المتحدة تعاني مما يمكن أن نسميه حالة الإجهاد والإرهاق السياسي التي تدفعها للقلق وضعف السيطرة على الأحداث والرغبة في التركيز، بدلا من متابعة وضبط كل المنظومة الدولية.

ويعتبر استمرار الاحتلال لفلسطين حالة من حالات التعقيد والاضطراب في المنطقة، وتحاول هذه الورقة استشراف المستقبل بعد رحيل الرئيس محمود عباس، معتمدة أسلوب التفكير بالسيناريوهات. وستتعرض الورقة للتوجهات العامة لكل سيناريو محتمل لتصل إلى استشراف المآلات المتوقعة.

ماذا تعني حالة الاضطراب والتعقيد؟

لا شك أن حالة الاستقرار أو شبه المستقرة تعتبر من الحالات المثالية التي يسهل التعامل معها سواء في التخطيط أو التنفيذ، وما يتعلق بذلك من تنبؤ واستشراف. ذلك أن عوامل التغيير تكون معروفة وسهلة التشخيص، كما يكون معدل تردد المتغيرات ضمن حدود الاستيعاب وبالتالي ضمن حدود التوقع. وكل ذلك يسّهل عمليات الإدارة من تحليل وتخطيط وتنفيذ وتنظيم ورقابة وتكيف مع المتغيرات.
يعتبر استمرار الاحتلال لفلسطين حالة من حالات التعقيد والاضطراب في المنطقة، وتحاول هذه الورقة استشراف المستقبل بعد رحيل الرئيس محمود عباس، معتمدة أسلوب التفكير بالسيناريوهات

إلا أن حالة الاضطراب والدينامية العالية تجعل الأمور أكثر تعقيدا، حيث تتقلب الأمور بسرعة ويزداد معدل تردد المتغيرات. وكلما زاد الاضطراب والتعقيد، كلما زادت حالة عدم اليقين، وضعفت القدرة على التنبؤ، وتضعف استمرارية منطق الأشياء، وستبدو الأحداث وكأنها خارج المألوف، وقد تنتج مخرجات لا تتناسب مع المعطيات.

الاضطراب بعد رحيل عباس

من المتوقع أن يُحدث رحيل السيد محمود عباس حالة من الاضطراب والتعقيد في المشهد الفلسطيني؛ وذلك لعدة أسباب، ولعل منها على سبيل المثال لا الحصر عدم وجود حالة ديمقراطية تفرز خليفة له بصورة طبيعية متفق عليها. كما أن وجود السلطة تحت ظل الاحتلال وسيطرته وسطوته جعلتها حالة أمنية أكثر من كونها حالة حاكمة بمنطق السيادة والاستقلال، علاوة على أن اتفاقية أوسلو موضعت السلطة في المربع الأمني، مما حوّلها للأسف لكيان لا يرضى عنه جمهور الشعب الفلسطيني، وبالتالي ظلت السلطة ضمن البعد السياسي والسيادي الذي رسمته اتفاقية أوسلو وترسمه سلطة الاحتلال. يضاف لذلك أزمة الانقسام الفلسطيني الداخلي، سواء بين فتح وحماس، أو بين مكونات الفصيل الواحد، حيث أصبحت الخلافات والانقسامات واضحة وعميقة مما يفقد الحالة الفلسطينية ميزة التماسك، ويزيد من حالة التعقيد الفلسطيني الداخلي.

ليس ذلك فحسب، بل إن الانقسام الداخلي في المجتمع الصهيوني يضرب أطنابه بين المتشددين الذين لا يفهمون منطق السياسة وتوازن القوى؛ وبين العلمانيين وغيرهم من مكونات المجتمع الصهيوني. كما أن حالة القلق المعنوي تدب في صفوف المجتمع الصهيوني وتتغلغل في نفوسه نتيجة غزو أوكرانيا وعدم قدرة الغرب على حمايتها وهي في خاصرة أوروبا، وبالتالي من المتوقع أن يحدث هذا للكيان المحتل. هذا الرعب والقلق المعنوي له أسبابه وجذوره الواقعية. وبما أنه لا توجد هزيمة دائمة كما لا يوجد نصر دائم، فها هو بوتين منذ سنوات عديدة يحاول تعويض هزيمة الاتحاد السوفييتي، ويحقق حلما بإمبراطورية روسية، وها هو ينفذ هذا على الواقع، وبالتالي ما المانع أن تحدث حالة نهوض في المنطقة تنعكس على الكيان المحتل؟
من المتوقع أن يُحدث رحيل السيد محمود عباس حالة من الاضطراب والتعقيد في المشهد الفلسطيني؛ وذلك لعدة أسباب، ولعل منها على سبيل المثال لا الحصر عدم وجود حالة ديمقراطية تفرز خليفة له بصورة طبيعية متفق عليها. كما أن وجود السلطة تحت ظل الاحتلال وسيطرته وسطوته جعلتها حالة أمنية أكثر من كونها حالة حاكمة بمنطق السيادة والاستقلال

إن العقيدة العسكرية الإسرائيلية تفترض أنه لا توجد هزيمة، لأن أي هزيمة هي انتهاء للكيان المحتل حيث عمقه الجغرافي محدود وعمقه الاستراتيجي مفقود. فلو حدث أي تغير جيوسياسي في المنطقة وخصوصا في إحدى دول الجوار فقد تنقلب الأمور رأسا على عقب، وعندها سيغرّد الغرب للصهاينة بسيمفونية التسوية والحلول التفاوضية والتنازلات ومنح الفرصة للسلام، كما يغردها للعرب حاليا.

إن حالة القلق والاضطراب تخيم على الوضع الفلسطيني كما تخيم على استقرار الكيان إن لم يكن أشد.

ما هو المتوقع في حال رحيل الرئيس محمود عباس؟

من خلال الواقع الحالي، فإن هناك سيناريوهين أساسيين يتفرع عنهما سيناريوهات فرعية وهما:

1- السيناريو العام الأول: تعيين بديل عن الرئيس عباس قبل رحيله.

2- السيناريو العام الثاني: رحيل عباس بدون تعيين بديل عنه.

السيناريو العام الأول: تعيين بديل عن الرئيس عباس قبل رحيله

قد يتفرع من هذا السيناريو العام أكثر من احتمال فرعي:

أول سيناريو فرعي: التوافق

أن يتم التوافق داخل حركة فتح وفي أروقة السلطة على بديل متوافق عليه، وتسير الأمور على ما هي عليه حاليا من تعاون أمني وثيق مع الكيان المحتل، وأن تتفاهم الأطراف المتنافسة على هذا الوضع ويتم تقسيم الكعكة بينها بطريقة تحدث توافقا بينها.

والاحتمال الفرعي الثاني: التوافق ثم الاختلاف

تسليم السلطة للبديل سيكون في البداية هادئا ولا يتوقع أن تكون هناك فوضى في ملء الفراغ، ولكن من المتوقع بعد فترة زمنية أن يدب الخلاف بين المتنافسين فيبدأون بعرض المزيد من الالتزامات الأمنية مقابل الدعم الداخلي لهم، ذلك لأنه لا يتوفر لدى فتح شخصية كاريزمية يمكن الإجماع عليها. وبالتالي سيندفع البديل نحو العدو طلبا للدعم له، وبالطبع سيكون هذا الدعم من العدو مقابل مزيد من التعاون الأمني والتماهي مع سياسات المحتل. وفي المقابل من المتوقع أيضا أن يندفع بعض المنافسين في نفس الاتجاه، وسيدخل الجميع في دوامة التنافس على إرضاء المحتل.

أما بالنسبة لكتائب شهداء الأقصى (الذراع العسكري لفتح)، فبالرغم من وجود العديد من المخلصين الوطنيين فيها، فإنها تواجه ضعف الدعم الرسمي لها من قبل قيادة فتح، حيث استُهدف العديد من الوطنيين منهم بالضفة في الآونة الأخيرة وتركتهم قيادة فتح لمصيرهم دون أي مدد سياسي أو حتى معنوي. وبالتالي، فقد تحاول الدفع باتجاه أحد المتنافسين، فيزداد الوضع سوءا في الضفة الغربية، وقد تتطور الأمور نحو اشتباكات داخلية بين مكونات السلطة والمكونات الفتحاوية. ومما لا شك فيه، فإن حركة فتح ستتعرض لمزيد من الانقسامات الداخلية وتحولها بشكل أوضح لمجموعات متنافسة على السلطة بدلا من الهم الوطني. وسيحافظ الكيان المحتل على هذا الوضع المتنافس الداخلي ويطيل أمده، من خلال دعم جميع الأطراف والتلاعب على التنافس المدمر بين المكونات الفلسطينية.
من المتوقع أن يدب الخلاف والصراع الداخلي بين المتنافسين، وسيندفع بعضهم نحو طلب الإسناد من المحتل لدعمه مقابل مزيد من الالتزامات الأمنية لصالح العدو. ومن المتوقع أيضا أن يتبنى البعض الخطاب الوطني للمزايدة على منافسيه ولطلب التأييد الشعبي، ومن المتوقع أن ينشب خلاف داخلي قوي تنتج عنه مواجهات مسلحة بين المتنافسين

الاحتمال الفرعي الثالث: تحرك وطني لكتائب شهداء الأقصى

أن ترفض كتاب الأقصى والمخلصون الوطنيون فيها هذا الوضع ولا تقبل التشرذم خلف المتنافسين، وتتحول للمقاومة وتتكامل أو تتوحد مع فصائل المقاومة الأخرى لتشكل حالة جهادية مقاومة في الضفة، تنقل الوضع الفلسطيني في الضفة لمرحلة مختلفة تماما. وبالتالي تتحول مناطق فلسطين في الضفة وغزة لحالة مقاومة متناغمة تنقل المنطقة بأسرها لوضع الاشتباك مع المحتل، وفي حال انضمام شعبنا في مناطق 48 ستكتمل الحالة الجهادية لتضيق الخناق على المحتل وتضعه في الزاوية الحرجة.

السيناريو العام الثاني: رحيل عباس بدون تعيين بديل عنه

ويفترض هذا السيناريو العام أن يرحل محمود عباس دون التوافق على بديل، وسيكون هذا السيناريو هو الأسوأ. وهناك أكثر من سيناريو فرعي لهذا التوجه العام.

السيناريو الفرعي الأول: صراع داخلي بين المتنافسين

فمن المتوقع أن يدب الخلاف والصراع الداخلي بين المتنافسين، وسيندفع بعضهم نحو طلب الإسناد من المحتل لدعمه مقابل مزيد من الالتزامات الأمنية لصالح العدو. ومن المتوقع أيضا أن يتبنى البعض الخطاب الوطني للمزايدة على منافسيه ولطلب التأييد الشعبي، ومن المتوقع أن ينشب خلاف داخلي قوي تنتج عنه مواجهات مسلحة بين المتنافسين، خصوصا إذا ما انضمت كتائب الأقصى إلى أحدهم، أو تفرقت كتائب الأقصى فيما بينها وأصبح كل جزء يدعم أحد المتنافسين. وحينها ستدب الفوضى في الضفة، ومن المتوقع في هذه الحالة إذا استمرت أن تتدخل قوات الاحتلال لترجح أحد المتنافسين على الآخرين وتشكيل كرزاي فلسطيني جديد.

السيناريو الفرعي الثاني: عدم القدرة على ترجيح أحد المتنافسين

أن يتم التفاهم مع بعض المعتقلين في سجون الاحتلال والوصول معهم لحالة تفاهم ما، ينتج عنها الإفراج عنهم مقابل ترتيبات تضمن استمرار التعاون الأمني مع بعض الإصلاحات الداخلية على المستوى المعيشي. وبالتالي طرح شخصيات تحظى بتعاطف شعبي بسبب الاعتقال، وفي نفس الوقت تحقق المطالب الأمنية للاحتلال.
العديد من السيناريوهات تتجه نحو استمرار التعاون الأمني وزيادة التنافس بين المرشحين للرئاسة لصالح استمرار اتفاقية أوسلو. وبالتالي، فمن المرجح أن يدفع الاحتلال نحو اعتماد أحدهم ليكون بديلا عن الرئيس عباس قبل رحيله

السيناريو الفرعي الثالث: الانفلات الأمني

وهو أنه في حال عدم ضبط الأمور ووصولها لمرحلة الانفلات الأمني غير القابل للضبط، أن تتدخل قوات الاحتلال وتعيد احتلال الضفة، وهنا ستدخل القضية في بعد آخر معقد، وستكون فيه خلخلة قد تفضي لإحياء المقاومة في الضفة الغربية من جديد وخلق حالة جهادية فيها، مما يمهد الطريق لحالة الاشتباك الشامل مع المحتل في كل الأراضي الفلسطينية، وبدء منعطف جديد نحو التحرر والمقاومة الشاملة.

الخلاصة

العديد من السيناريوهات تتجه نحو استمرار التعاون الأمني وزيادة التنافس بين المرشحين للرئاسة لصالح استمرار اتفاقية أوسلو. وبالتالي، فمن المرجح أن يدفع الاحتلال نحو اعتماد أحدهم ليكون بديلا عن الرئيس عباس قبل رحيله. وفي حال عدم تحقق ذلك، فسيدفع الاحتلال نحو ترجيح شخصية من بين المتنافسين على قاعدة من يقدم خدمات أمنية أكثر ستكون له الحظوة لدى المحتل. ومن المحتمل أن يكون لكتائب الأقصى موقف وطني يبتعد بها عن الخلافات الداخلية التي تصب في النهاية لمصلحة المحتل، وتندفع كتائب الأقصى لتتناغم مع فصائل المقاومة الأخرى لتشكل حالة اشتباك شاملة مع المحتل. ولعل الدخول في حالة اقتتال داخلي بين المتنافسين والوصول لحالة الانفلات الأمني والمواجهات المسلحة بين المتنافسين واندفاع الكيان إن لم يستطع السيطرة على الوضع نحو إعادة احتلال أجزاء من الضفة أو كلها، وإعادة الأمور إلى المربع الأول وخلق حالة جهادية تشتبك مع الاحتلال، فإنه مما لا شك فيه أن الاحتلال سيدفع بكل قوة لعدم الوصول لمثل هذه الاحتمالات، خصوصا أن السيناريوهات الأخرى أكثر احتمالية وواقعية وأقل تكلفة بالنسبة له.