قضايا وآراء

أي معنى للديمقراطية وللتداول على السلطة في ظل "تصحيح المسار" بتونس؟

تجاوز سعيد كل المؤسسات الديمقراطية والوسيطة- جيتي
تصدير: "أتحمل المسؤولية ولن أتخلى عن المسؤولية، ولست مستعدا لأن أسلّم وطني لمن لا وطنية له" (الرئيس قيس سعيد بمناسبة الاحتفال بذكرى وفاة الراحل الحبيب بورقيبة)

بصرف النظر عن الاختلافات العميقة بين التونسيين في "دستورية" تفعيل الرئيس قيس سعيد للفصل 80 من الدستور يوم 25 تموز/ يوليو 2021، وبصرف النظر عن الإخلالات الإجرائية التي صاحبت ذلك القرار وجعلته سببا في زيادة الانقسام بين عموم الشعب والنخب (من مثل حل الحكومة وتجميد عمل البرلمان قبل حله واستيلاء الرئيس على السلطة التشريعية بمنطق الأوامر والمراسيم وتجاوز الآجال الدستورية لحالة الاستثناء.. الخ)، فإن ما سُمّي بـ"تصحيح المسار" كان يهدف بنص الدستور ذاته إلى "تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال"، بعد تجاوز "حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها". ولكنّ الرئيس قيس سعيد أدار البلاد -خاصةً منذ صدور الأمر الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021- بمنطق المرحلة الانتقالية لا بمنطق حالة الاستثناء المؤقت، وذلك تمهيدا لطرح "خارطة الطريق" الثلاثية التي أُريد لها التأسيس لجمهورية جديدة (الاستشارة الوطنية الإلكترونية، الاستفتاء على الدستور، الانتخابات التشريعية).

لقد كانت مواجهة "الخطر الداهم" هي أساس الشرعية الدستورية لإجراءات الرئيس، ولكنّ الخطر الداهم (وهو أمر يمكننا التسليم للرئيس بوجوده بحكم الأزمة السياسية والصحية والاقتصادية الحادة التي كانت تعاني منها تونس) كان يستوجب التحرك ضمن مرجعية دستور 2014 ولمدة ذات سقف زمني محدد، وهما أمران لم يحكما الإجراءات الرئاسية منذ البيان الأول. فقد استطاع الرئيس أن يفرض تأويله الدستوري مستغلا الأزمة البرلمانية والصراعات الأيديولوجية ونقمة جزء معتبر من الشعب على البرلمان والأحزاب، كما استفاد حاكم قرطاج من غياب المحكمة الدستورية باعتبارها الجهة التحكيمية في بيان دستورية الإجراءات من عدمها، وفي الفصل في حالة الاستثناء إما بالإنهاء أو بالتمديد. فتفعيل الفصل 80 كان يقتضي دستوريا إبقاء مجلس النواب في حالة انعقاد دائم، كما كان الفصل ذاته يقتضي عدم حل الحكومة أو تقديم لائحة لوم ضدها، ولم يكن يوجد في ذلك الفصل ما يشرعن حل مجلس النواب أو تجميد اختصاصاته والاستيلاء عليها من لدن رئيس الدولة.

إننا أمام توجه استبدادي سيجد تعبيراته السلطوية في النظام الرئاسوي الذي أقره الدستور الجديد. وهو أمر غضّ الطرف عنه الكثير من أنصار "تصحيح المسار" إلى حين صدور المرسوم 117 المذكور أعلاه ثم اتخذوا مسافة من الرئيس ومساره، ولكن غيرهم ممن ينتمون إلى "الموالاة النقدية" أو الموالاة المطلقة ما زالوا يبررونه ويعتبرونه قرارا صائبا

ونحن لم نذكر هذه "الإخلالات" إلا لأنها كانت توضح منذ البدء نية الرئيس الحقيقية من وراء تفعيل الفصل حالة الاستثناء. إننا أمام استراتيجية واضحة لتفعيل مشروع الرئيس، لكنّ السياق العام لم يكن يتحمّل طرح المشروع السياسي للرئيس (الديمقراطية القاعدية أو المباشرة التي تنهي الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، خاصة الأحزاب)، بل كان يستدعي فقط إيجاد نقطة انطلاق "دستورية" لذلك المشروع والتأسيس عليها بمنطق الأوامر والمراسيم.

إننا أمام توجه استبدادي سيجد تعبيراته السلطوية في النظام الرئاسوي الذي أقره الدستور الجديد. وهو أمر غضّ الطرف عنه الكثير من أنصار "تصحيح المسار" إلى حين صدور المرسوم 117 المذكور أعلاه ثم اتخذوا مسافة من الرئيس ومساره، ولكن غيرهم ممن ينتمون إلى "الموالاة النقدية" أو الموالاة المطلقة ما زالوا يبررونه ويعتبرونه قرارا صائبا (رغم أن أغلبهم كانوا من رموز ما يسمونها بـ"العشرية السوداء" ومن أهم الفاعلين الجماعيين فيها، خاصة اتحاد الشغل وبعض التشكيلات القومية واليسارية والتجمعية الجديدة). أما المعارضة الجذرية فإنها قد أصابت من وجه وأخطأت من وجه، فهي قد أصابت عندما اعتبرت الإجراءات انقلابا وطعنت في دستوريتها، ولكنها أخطأت عندما عوّلت على تَونسة السيناريو التركي (خروج الشعب للدفاع عن الشرعية) دون أن تكون قد قدمت للشعب من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية؛ ما يجعله يدافع عن الديمقراطية التمثيلية ووسائطها ومؤسساتها.

رغم أن الرئيس قد برر إجراءاته بمفهوم "الخطر الداهم"، فإن هذا المفهوم الدستوري لم يكن في منطقه السياسي العميق هو الأهم. فنحن نذهب إلى أن هذا المفهوم كان هو "المتاح" دستوريا ولكنه لم يكن هو المقصود سياسيا، فالخطر الداهم يستدعي مفهوم "الشراكة" في إدارة حالة الاستثناء مع البرلمان والحكومة المنبثقة منه، كما يفترض تسقيفا زمنيا ينتهي عنده تفعيل الفصل 80 وتعود الحياة السياسية بمؤسساتها إلى سالف عهدها. لكنّنا نعلم جيدا أن الرئيس لم يكن يعتبر نفسه شريكا لأي فاعل سياسي في الحكم أو المعارضة، ونعلم أيضا موقفه من الدستور ومن الأحزاب السياسية والهيئات الدستورية وغيرها، وهو أمر يجعل أي قارئ موضوعي للمشهد التونسي قادرا على استشراف مسار الإجراءات ومآلاتها، بصرف النظر عن تصريحات الرئيس أو انتظارات خصومه وأنصاره على حد سواء. فما يحرك الرئيس ليس مواجهة "الخطر الداهم"، بل استئصال "الخطر الجاثم". ورغم أن هذا المفهوم ليس مفهوما دستوريا إلا أنه قد مثّل التأصيل "فوق الدستوري" لتصحيح المسار، وخياراته الكبرى ضد الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل والأجسام الوسيطة كلها.

ما يحرك الرئيس ليس مواجهة "الخطر الداهم"، بل استئصال "الخطر الجاثم". ورغم أن هذا المفهوم ليس مفهوما دستوريا إلا أنه قد مثّل التأصيل "فوق الدستوري" لتصحيح المسار، وخياراته الكبرى ضد الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل والأجسام الوسيطة كلها

لقد كان الرئيس يطرح نفسه منذ حملته الانتخابية باعتباره "بديلا" لا شريكا، ولم تكن إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 إلا تفعيلا لهذا المنطق مع مراعاة الواقعية التي فرضت التدرج في "التمكين" لمشروعه السياسي، أو بالأحرى للمشروع السياسي للنواة الصلبة لمنظومة الحكم وحلفائها الإقليميين والدوليين بتوظيف رمزية الرئيس وشعبيته.

ولا شك عندنا في أن مفهوم "الخطر الداهم" لا يمكن أن يؤسس لمشروع بديل، كما لا شك عندنا أيضا في أن الرئيس كان يعي هذا الأمر جيدا، ولذلك تحدث في أكثر من مناسبة عن "الخطر الجاثم" وربطه بالأحزاب وببعض الهيئات والمنظمات. إن "الخطر الجاثم" هو بهذا المعنى معطى بنيوي ملازم للدستور ذاته ولما تأسس عليه أو استمد شرعيته منه، بل هو ملازم لكل الأجسام الوسيطة التي هيمنت على الديمقراطية التمثيلية وعلى مسار الانتقال الديمقراطي منذ رحيل المخلوع. ولذلك لم يكن "تصحيح المسار" قادرا على الاستمرار إلا بإلغاء دستور 2014 وتغيير النظام السياسي برمته. وهو أمر كانت إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 تحمله "بالقوة" قبل أن تخرجه للفعل على وجه التدريج.

بعد ما يقارب العامين من تفعيل حالة الاستثناء، يحق للتونسيين والتونسيات أن يتساءلوا عن محصول "تصحيح المسار" من جهة وعوده بمواجهة الخطرين الداهم والجاثم. فحتى لو سلّمنا للرئيس -جدلا أو اعتباطا- بأن الخروج من حالة الخطر الداهم يستوجب "التأسيس الثوري الجديد"، أي يفترض استحالة عودة سير دواليب الدولة بصورة طبيعية تحت سقف دستور 2014 وفي ظل نظام برلماني معدّل، فإن واقع تونس اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا يشير إلى وجود هوة شاسعة بين الموعود والمتحقق. فتهميش الأحزاب ومركزة السلطة في نظام رئاسوي لم يُحسّن شيئا في واقع التونسيين، رغم أنه جعل سياسات الحكومة وخياراتها خارج إطار المراقبة والحوكمة. كما أن ما يُسمى الحرب على الفساد أو بـ"معركة التحرير" لم يظهر لهما أي أثر إحصائي وقابل للضبط الكمي الموضوعي، ولم يتجليا في تشريعات وسياسات تقطع مع المنظومة القديمة ومع رساميلها البشرية والرمزية وخياراتها اللا وطنية.

أما "الخطر الجاثم" فإن تصحيح المسار قد تعامل مع تجلياته السطحية (الفساد الحزبي، التشريعات السياسية) ولكنه لم يُظهر أي نية في مواجهة أسبابه العميقة: الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة وتشريعاتها المؤسسة للتفاوت الجهوي والطبقي وللتبعية البنيوية للخارج ثقافيا واقتصاديا. فرغم أن الرئيس قد أظهر أكثر من مرة موقفا نقديا من منظومة الحكم بلحظتيها الدستورية والتجمعية، فإنه ما زال يتحرك داخل ما يحكمها من مجازات السيادة والوطنية والحداثة والحريات الفردية والجماعية، تلك المجازات التي لا محصول تحتها واقعيا إلا الجهوية والزبونية، والنظام الريعي الذي ما زالت عائلاته الكبرى (بكارتيلاتها البنكية وباحتكارها لأهم القطاعات الاقتصادية) أكبر مستفيد من الأزمة السياسية وتداعياتها الاقتصادية الكارثية على عموم المواطنين وعلى أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة.

ختاما، فإن الرئيس قيس سعيد -كما وضح في كلمته بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس الحبيب بورقيبة- يعتبر نفسه صاحب مشروع، وهو مشروع هدفه القضاء على الخطرين الداهم والجاثم دون تحديد أي سقف زمني أو حتى وضع نفسه موضع المساءلة والمحاسبة. فالرئيس يتحمّل "المسؤولية" ولكنه لا يشعر أنه ينافس فيها أي أحد (أو بالأحرى لا يوجد من هو مؤهل لمنافسته فيها). والمسؤولية في الخطاب السياسي للرئيس ليست مرتبطة بالإرادة الشعبية (فقد أثبت "المحطات التاريخية" الثلاث التي رجع فيها إلى الشعب أنه لا يمثل إلا أقلية)، كما أنها ليست مرتبطة بالضرورة بإرادة مناصريه (فقد أراد أغلب المشاركين في الاستشارة الإلكترونية تعديل دستور 2014 لكن الرئيس استفتاهم على دستور جديد).

سلطة الرئيس باقية ما دام يتمتع بمساندة النواة الصلبة للحكم (المؤسسات الحاملة للسلاح والعائلات الريعية الكبرى)، ولكن الرئيس يصوغ هذه الحقيقة الموضوعية صياغة مختلفة أساسها المسؤولية الوطنية والدينية. فهو صاحب أمانة، وهو ليس مسؤولا عنها إلا أمام الله والتاريخ و"الصادقين"

واقعيا، فإن سلطة الرئيس باقية ما دام يتمتع بمساندة النواة الصلبة للحكم (المؤسسات الحاملة للسلاح والعائلات الريعية الكبرى)، ولكن الرئيس يصوغ هذه الحقيقة الموضوعية صياغة مختلفة أساسها المسؤولية الوطنية والدينية. فهو صاحب أمانة، وهو ليس مسؤولا عنها إلا أمام الله والتاريخ و"الصادقين" (أي أولئك الذين يقبلون بكل قراراته بمنطق شبه إيماني). ولذلك فإنه واقعيا ليس في موضع تنافس مع أي كان، رغم أن الدستور يُبقي "نظريا" على فرضية التنافس على رئاسة الجمهورية. فخصومه هم بالضرورة فاسدون أو متآمرون على الدولة والشعب (لا وطنية لهم) ولذلك فإنهم مقصيّون من التنافس، أما أنصاره فلا يوجد فيهم "نظير" أو حتى "رجل ثان" (بل لا يوجد فيهم من يستحق أن يتحدث باسم رئاسة الجمهورية).

ولذلك فإن "العهدة الرئاسية" هي أقرب ما تكون إلى "الخلافة الراشدة" التي لخص منطقها عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما طالبه الناس بالتنحي: "ما كنت لأخلع رداءً سربلينه الله". وهو منطق أبعد ما يكون عن الفلسفة السياسية للديمقراطية الليبرالية (التمثيلية)، ولكنه يتقاطع (مع اختلاف في النسق الحجاجي لا في الجوهر) مع الديمقراطية الشعبية (الشيوعية) التي لا مكان فيها لتغيير الزعيم سواء من داخل منظومة الحكم أو من خارجها، لأن معارضته/ منافسته ليست إلا خيانة للدولة والشعب.

twitter.com/adel_arabi21