قضايا وآراء

حرية الصحافة بين "أخلاقيات المهنة" وفتنة "ما بعد الحقيقة"

تراجعت تونس بمؤشر حرية الصحافة- جيتي
تصدير: "من يشكك في الحريات في الداخل والخارج، هو إما عميل وإما مصاب بغيبوبة فكرية" (الرئيس التونسي قيس سعيد)

بين منطق الثالث المرفوع الذي ينفي وجود أي انتهاك للحريات الصحفية في تونس (فمن يشكك في ذلك هو إما عميل إن كان تونسيا أو مريض فكريا إن كان أجنبيا، ولا توجد فرضية ثالثة)، وبين اعتبار نقابة الصحفيين أن الصحافة تعيش "وضعا سيئا للغاية"، وتحذير النقيب مهدي الجلاصي من أن التلفزيون الرسمي قد تحوّل إلى "بوق دعائي تافه يستبعد كل أصوات المعارضة، بعد أن كان صوتا للجميع في العقد الماضي" (رغم أن أغلب منظوري نقابته كانوا ومازالوا جزءا من القوى المساندة لـ"تصحيح المسار")، احتفلت تونس يوم 3 أيار/ مايو الجاري باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ 1993.

وقد جاء هذا الاحتفال في وقت تراجع فيه ترتيب تونس (حسب منظمة "مراسلون بلا حدود") من المرتبة ٧٣ عالميا إلى المرتبة 94 في مؤشر حرية الصحافة. ولمّا كانت الأرقام لا تنطق ولكن ينطق بها الرجال (والنساء) وشبكات المصالح والرعاية المتبادلة التي تقف وراءهم، وكانت معايير التصنيف الدولية متجهة أساسا إلى الأطر التشريعية المنظمة لمهنة الصحافة، وإلى طبيعة علاقة السلطة بالإعلام أقل مما هي متجهة إلى "مضمون" الخطاب الإعلامي "الحر"، فإننا مضطرون إلى اتخاذ مسافة نقدية من ذلك التصنيف وإلى وضع "حرية الصحافة التونسية"، ضمن منظور قد لا يطابق بالضرورة سرديات السلطة والمعارضة على حد سواء.

كيف يمكن لجمعية الصحفيين وللهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري أن تناصرا نظاما جعل تونس تتقهقر من المرتبة الثانية عربيا، والثالثة والسبعين عالميا سنة 2021، إلى المرتبة 94 عالميا، والخامسة عربيا سنة 2022؟

رغم أن من حق القارئ أن يعتبر المرتبة 94 دليلا على تراجع الحريات الصحفية في تونس، فإننا حين نقرأ الترتيب من منظور دياكروني (زمني) يبدأ من سنة 2012 سنُنسّب هذا الحكم، أو على الأقل سنفهم أسبابه العميقة، وسننظر إلى واقع الحريات الصحفية في تونس بصورة مختلفة.

ولتوضيح هذه المقاربة، يكفي أن نستحضر ترتيب تونس في حرية الصحافة خلال المرحلة التأسيسية (أي إلى سنة الاتفاق على الدستور الجديد في 2014)، ويكفي لذلك أن نطرح السؤال التالي: كيف يمكن للبلد الذي انطلقت منه "الربيع العربي" أن يكون ترتيبه في حرية الصحافة هو 134 سنة 2012 و138 سنة 2013؟ وإذا غادرنا هذا المحدد الزمني، فإننا سنتساءل كيف يمكن لتونس في أفضل مراتبها عربيا ألا تتجاوز المرتبة 96 عالميا سنة 2016، وكيف يمكن لجمعية الصحفيين وللهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري أن تناصرا نظاما جعل تونس تتقهقر من المرتبة الثانية عربيا، والثالثة والسبعين عالميا سنة 2021، إلى المرتبة 94 عالميا، والخامسة عربيا سنة 2022؟

من الناحية الإحصائية الصرفة، يستطيع أي مناصر للرئيس قيس سعيد أن يقول؛ إن الترتيب الحالي لتونس في حرية الصحافة يظل أفضل بكثير من ترتيبها خلال المرحلة التأسيسية، بل في السنة التي احتلت فيها تونس صدارة الدول العربية (خلال مرحلة التوافق)، كما يستطيع أن يعتبر التراجع في الترتيب ظاهرة "عادية"؛ لأن لها سوابق قبل "تصحيح المسار". ولا شك في أن هذا النسق الحجاجي الهش والمغالطي سيكتسب الكثير من المصداقية الزائفة، إذا ما استحضرنا الشيطنة النسقية لما قبل 25 تموز/ يوليو 2021 باعتباره "عشرية سوداء"، حتى في خطاب أغلب الصحفيين الذين يُشكّلون الرأي العام من خلال المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة.

إذا ما نظرنا مثلا إلى الأطراف المتداخلة في الشأن الإعلامي، فإننا سنجد أن أغلبها منحدر من المنظومة القديمة؛ إما من جهة الشخوص (مثل أغلب أعضاء الجامعة التونسية لمديري الصحف والكثير من مالكي وسائل الإعلام الخاصة)، أو من جهة العقلية (مثل أغلب أعضاء نقابة الصحفيين وأعضاء هيئة الاتصال السمعي والبصري وأغلب "المحللين" و"الخبراء").

ونحن لا يمكن أن نخرج من هذا التناقض الظاهر، إلا حين نطرح الأسئلة التالية ونجيب عليها، بعيدا عن "الإرهاب اللغوي" والوصم الذي يتعرض له كل من يحاول طرح قضية الإعلام، بعيدا عن وصاية النواة الصلبة للمنظومة القديمة ووكلائها: ماذا تعني "حرية الصحافة" في تونس منذ رحيل المخلوع؟ من هو المستفيد منها ومن هم ضحاياها؟ ما هي الأطراف المالية والأيديولوجية والمؤسساتية التي تتحكم في المشهد الصحفي التونسي وتحدد سقف حرياته؟ هل استطاعت الصحافة التونسية بمختلف منابرها المقروءة والمكتوبة والمرئية أن تكون في مستوى شعار "الخبر مقدس والتعليق حر"؟ إلى أي حد ساهمت الصحافة في تونس (بتشريعاتها وهيئاتها التمثيلية والتعديلية) بنشر قيم "ما بعد الحقيقة"، والتطبيع مع ما يؤسسها –حسب قاموس أوكسفورد لسنة 2016- من "الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية ذات تأثير أقل على الرأي العام من تأثير الانفعال العاطفي والاعتقاد الشخصي"؟

بحكم الاستقطابات الهوياتية والتحيزات السياسية الحادة التي تحكم الواقع التونسي، فإننا على يقين من أن الإجابة على الأسئلة الواردة أعلاه، لن تكون محل توافق من النخب المهيمنة على إنتاج المعنى والتحكم في هندسة سوق الثروات الرمزية (وما يرتبط به من ثروات مادية). ولكننا نزعم أن الواقع قد يساعد في تحديد متانة كل طرح ومدى معقوليته، فإذا ما نظرنا مثلا إلى الأطراف المتداخلة في الشأن الإعلامي، فإننا سنجد أن أغلبها منحدر من المنظومة القديمة؛ إما من جهة الشخوص (مثل أغلب أعضاء الجامعة التونسية لمديري الصحف والكثير من مالكي وسائل الإعلام الخاصة)، أو من جهة العقلية (مثل أغلب أعضاء نقابة الصحفيين وأعضاء هيئة الاتصال السمعي والبصري وأغلب "المحللين" و"الخبراء").

إن أزمة الصحافة أكبر من أن تُختزل في التضييقات السلطوية التي تتعرض لها (خاصة بعد صدور المرسوم الرئاسي عدد 54). فهذا المنطق الاختزالي هو ضرب من التسطيح والمغالطة، بل هو تعبير عن قوة وسائل الإعلام في تزييف الوعي الجمعي وحرفه عن الإشكالات والقضايا الأعمق، والأجدر بأن تكون موضوعا للسجال العمومي.

ولا شك عندنا في أن نقابة الصحفيين صادقة في دفاعها عن حرية الصحافة، ولكن الإشكال هو في معنى الحرية التي تدافع عنها وعن سقفها وطبيعة المستفيدين منها، وهو ما يجعلنا نطرح أسئلة هي من باب "اللا مفكر فيه" عند الصحفيين قبل غيرهم.

ما قيمة الحرية الصحفية -بل ما قيمة الحقيقة وأخلاقيات العمل الصحفي-، في فضاء يتم التلاعب فيه بالأحداث (بل اختلاقها)؛ قصد دمغجة المتلقي وإعادة برمجته سياسيا بعد الثورة؟ وماذا ننتظر من إعلام تقوم بتعديله هيئة منحازة أيديولوجيا وسياسيا، (وهي فضلا عن ذلك منتهية الصلاحية قانونيا)، وتتحكم في خطوط تحريره جهات مالية وأيديولوجية لا تخفى ارتباطاتها بالمنظومة القديمة وبمحور الثورات المضادة؟

فكيف يمكن الحديث عن "حرية الصحافة" في مشهد إعلامي يهيمن عليه الخبراء والمحللون الذين تخصصوا في تزييف الوعي؟ وكيف يمكن أن يكون الخبر مقدسا عندما يتحكم في صياغته صحفيون هم أقرب إلى المخبرين أو الدجالين منهم إلى الإعلاميين؟ وما قيمة الحرية الصحفية -بل ما قيمة الحقيقة وأخلاقيات العمل الصحفي-، في فضاء يتم التلاعب فيه بالأحداث (بل اختلاقها)؛ قصد دمغجة المتلقي وإعادة برمجته سياسيا بعد الثورة؟ وماذا ننتظر من إعلام تقوم بتعديله هيئة منحازة أيديولوجيا وسياسيا، (وهي فضلا عن ذلك منتهية الصلاحية قانونيا)، وتتحكم في خطوط تحريره جهات مالية وأيديولوجية، لا تخفى ارتباطاتها بالمنظومة القديمة وبمحور الثورات المضادة؟ وما هي الأطراف التي ينتقد نقيب الصحفيين تغييبها من الإعلام العمومي؟ وهل إنه يعني الجميع بلا استثناء أم فقط أولئك الذين ينتمون إلى ما يسمى بـ"العائلة الديمقراطية" دون سواهم؟ ولماذا ما زالت النقابة تتعامل مع انتهاك الحريات بمنطق انتقائي مؤدلج ومسيس؟

إنها أسئلة سيكون على نقابة الصحفيين وعلى غيرها من الأطراف الفاعلة في الشأن الإعلامي أن تجيب عليها قبل انتقاد الانتهاكات التي تقوم بها سلطة، كانوا هم من أبرز الممهدين/ المساندين لها؛ لأسباب أبعد ما تكون عن نصرة "الخبر الحر والتعليق المقدس". ولا شك عندنا في أن الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة، هي المسلك الأمثل للدفاع عن حرية الصحافة، وللخروج من منطق الاحتجاج (باعتباره لحظة سالبة) إلى منطق التأسيس الحقيقي للحريات الخاصة والعامة، بعيدا عن سطوة الأيديولوجيات القاتلة وفتنة المال السياسي المشبوه، وسرديات الوصاية على الإرادة الشعبية واحتكار تمثيلها يمينا ويسارا.

twitter.com/adel_arabi21