أفكَار

الذكاء الاصطناعي.. من خيال السينما إلى واقع الصراع المرير

الهدف الأبعد هو صناعة جيل من الروبوتات قادر على صناعة الآلات الضرورية لتوفير جميع الحاجيات البشريّة (الأناضول)
مراجعة للعبارات الأكثر طلبا على محرّكات البحث، نجد أنّ "الذكاء الاصطناعي" تحتلّ مكانة مرموقة، حين صار الاهتمام متراوحا بين الفرد العادي الباحث عن المعنى من باب حبّ الاطلاع لا غير، مقابل كبار المستثمرين وأصحاب المؤسّسات الكبرى، دون إغفال القيادات المدنيّة كما العسكريّة في أغلب البلدان.

يمكن الجزم أنّ مفهوم "الذكاء الاصطناعي" غادر أو بدأ يغادر مجال الخيال العلمي والقراءات ذات البعد الفلسفي، الغارقة في قراءات الأبعاد الأخلاقيّة في ارتباط بالحاجات الحقيقيّة أو المفترضة، ليصير ويترسّخ في صورة الحقيقة البيّنة التي صارت جزءا من الحياة اليوميّة، على الأقلّ لجزء متزايد من البشريّة.

أسوة بجميع التحوّلات الكبرى تغرق البشريّة أو على الأقلّ نخبها في دوّامة النقاش، بين الفوائد المفترضة لهذا المجال الجديد من جهة، مقابل المخاطر التي يراها فريق من الخبراء والفلاسفة، من جهة أخرى.

يدرك الجميع، أنّ النقاش في بُعده الأخلاقي، عاجز عن الوقوف أو حتّى التأثير الفاعل والفعّال، ومن ثمّة أن يكون المحدّدة لمسار الأبحاث، ومن ثم مصير الإنسانيّة. الكلّ أو الأغلبية الغالبة تفكّر بمعنى التفوّق ضمن عمليّة تنافس لا مكان فيها سوى لعامل السيطرة المطلقة الضامنة للربح، ومن ثم تجاوز مجمل المنافسين هذه الموانع، وليس من همّ سوى استدامة التفوّق، الذي يتجاوز البعدين العلمي المجرّد أو الربح في بعده المادي، ليتحوّل رهانا بالمفهوم الاستراتيجي، توليه قيادات الدول المدنيّة كما العسكريّة أولويّة قصوى.

يمكن الجزم أنّ مفهوم "الذكاء الاصطناعي" غادر أو بدأ يغادر مجال الخيال العلمي والقراءات ذات البعد الفلسفي، الغارقة في قراءات الأبعاد الأخلاقيّة في ارتباط بالحاجات الحقيقيّة أو المفترضة، ليصير ويترسّخ في صورة الحقيقة البيّنة التي صارت جزءا من الحياة اليوميّة، على الأقلّ لجزء متزايد من البشريّة.
جامعة ستانفورد (في كاليفورنيا) تمتلك ميزانية أبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي قدرها 6,5 مليار دولار، تستثمرها في مجالات مثل تحليل الأشعّة السينيّة والخروج بنتائج جازمة دون الحاجة إلى طبيب، ومن ثمّة تحديد العلاج، سواء نوعيّة الأدوية أو مواعيد تناولها، وكذلك أشكال العلاج الأخرى، وصولا إلى إجراء العمليّات الجراحيّة، ومتابعة الحالة مع الاستعداد لكلّ طارئ، دون أدنى تدخّل بشري.

أسوة بمعالجة المريض بناء على تحليل الأشعّة السينيّة، يمتدّ الذكاء الاصطناعي إلى مجالات النشاط البشري، سواء الحياة اليوميّة من مأكل وملبس وممارسة أيّ مهنة كانت، وصولا إلى الصحّة والسفر وسائر أشكال الحياة الأخرى.

علماء الاجتماع ومجمل المجالات المرتبطة بمجال الذكاء الاصطناعي، يطرحون سؤالين، أو هو سؤال بوجهين: إلى أيّ مدى يستطيع الإنسان من منظور أخلاقي/ديني القبول بأيّ "إنجاز" يحقّقه العلم في مجال الذكاء الاصطناعي؟ وكذلك، ألا تمثّل هذه الإنجازات "خطرا" على النشاط البشري، حين يستطيع الذكاء في مجال الطبّ مثلا، تعويض طبيب، وبكلفة أدنى بالتأكيد، دون المطالبة بزيادات في الأجور أو راحة أو غيرها من المطالب المهنيّة، ممّا يعني الاستغناء عن "الطبيب الإنسان" لحساب "الخدمة الطبيّة" التي يؤدّيها الذكاء الاصطناعي؟ أليس هذه الاستعاضة مدخل لإلغاء مهنة الطبّ وما يسبقها من دراسة، حين يكفي برمجة الحواسيب بالمادّة العلميّة التي كان طالب الطبّ يتلقاها؟

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

سعى الإنسان منذ قدم التاريخ، إلى ابتكار أشكال تعينه على إجراء العمليّات الحسابيّة. بدأ العدّ اعتمادا على الأصابع ومن بعدها الحجارة، أو غيرها.

بين أقدم أسلوب حساب في التاريخ، تمّ اعتماده في بلاد الرافدين، وأقوى الحواسيب المعتمدة حاليا على المستوى العالم بأكمله، نجد المبدأ ذاته، أيّ إجراء العمليات الحسابيّة بدل الإنسان، في سرعة ترتفع من سنة إلى أخرى، إن لم نقل من شهر إلى آخر، وكذلك الرفع من العدد الجملي للعمليات، التي صارت بمئات المليارات في الثانية الواحدة.

إضافة إلى العمليّات الحسابيّة المجرّدة، أي تقديم النتيجة وفق قاعدة البيانات المقدمة، وكذلك أسلوب الحساب المتّبع، سعت الأبحاث لجعل الحواسيب، تتّخذ القرار بدل الإنسان صاحب المسؤولية.

عند هذا الحدّ، تحوّلت مهمّة الحواسيب من إجراء العمليات ربحا للوقت، إلى اتّخاذ القرار والتنفيذ.

اتخاذ القرار مثّل بداية "الذكاء الاصطناعي" الذي انطلق بسيطا. مثل ذلك، تحديد مواعيد سقي النباتات بناء على مؤشرات مثل درجة الحرارة والرطوبة ونوعية النبات وتركيبة التربة، ليحدّد الحاسوب الموعد والكميّة.

تطوّرت الحاجة إلى أشكال أخرى أشدّ تعقيدا؛ رغبة في تحسين الخدمات والتقليل من الكلفة. صعوبة وضع الضوابط القائمة في معادلات، أيّ خوارزميات، تغطّي مجالات الطلب جميعها دون استثناء، تطلّب تعميق الأبحاث وتطويرها، خاصّة وأنّ مجالات عديدة، تحيل على مسؤوليات ذات بعد جزائي وأخلاقي أساسا، ليكون السؤال عن الجهة التي تتحمّل المسؤوليّة في حال ارتكب الحاسوب "خطأ"؟ هل تعود المسؤوليّة إلى الجهات التي وضعت الخوارزميات أو الجهة التي تتولّى استغلاله؟

هل ينتقل الذكاء (فعلا) من البشر إلى الآلة؟

أثبت التاريخ أنّ انعدام الحاجة تلغي الوظيفة، حين انتقلت البشريّة من "الجهد البدني" (الأمر الذي أدّى إلى قيام نظام العبودية)، إلى تطويع الحيوانات، وصولا إلى العصر الصناعي، وانتهاء بدخول الكمبيوتر على الخطّ.

توفير أو بالأحرى توفّر خدمات مقاربة أو مساوية أو ربّما متفوّقة عمّا يقدّمه الإنسان، عامل سيدفع إلى الاستغناء عن عدد كبير من أشكال النشاط المهني. من الأكيد أن الذكاء الاصطناعي بدأ في فتح المجالات أمام اختصاصات جديدة، سواء ابتكار البرمجيات أو برمجة الحواسيب، لكن بحساب الكمّ، سيتقلّص العدد بالتأكيد.

هناك إجماع لدى مستشرفي المستقبل بالقدرة على صناعة آلات قادرة على العمل من تلقاء نفسها، دون حاجة إلى تدخل بشري، وأكثر من ذلك، قدرتها على صناعة آلات أخرى وتحديد مهامها، لينحصر التدخل البشري في أدناه، على المستوى التكنولوجي، لتبقى المسؤولية الأخلاقية والجنائيّة.
العديد من علماء الاجتماع يقفون ضدّ صيحات الفزع، معتبرين أنّ كلّ نمط إنتاجي يستوجب اختصاصات جديدة، مثال ذلك؛ أنّ المرور من حصاد الحبوب يدويا إلى اعتماد الآلات الحصاد، أدّى في البلدان المعنية إلى انخفاض شديد على أدوات الإنتاج التقليديّة، لحساب الآلات الطارئة. من ثم الحاجة إلى اختصاصات أخرى مثل قيادة الآلات وصيانتها، وكذلك تصنيعها.

في المقابل، يمكن الجزم أنّ الانتقال من المنجل إلى الجرّار أو آلة الحصاد، مجرّد تغيير في أدوات الإنتاج، مع محافظة البشر في الحالتين على سلطة القرار، أي عقل إنسان مقابل آلة مطيعة لا قرار لها ولا سلطة. لكن اعتماد جرّار أو آلة حصاد تتولّى إصدار القرار وتنفيذ عملية الحرث أو الحصاد، يعني إلغاء أو في الأدنى، التقليل من تدخّل الإنسان، ومن ثمّة مكانته، ومع الزمن قدرته على فرز القرار الصائب.

أبعد من الخيال.

ما كان من مجالات الخيال العلمي صار واقعا أو هو في طريقه ليتجسّد، ليكون النظر إلى المستقبل المتوسّط والبعيد والسؤال عن الممكن إنجازه بفضل الذكاء الاصطناعي.

هناك إجماع لدى مستشرفي المستقبل بالقدرة على صناعة آلات قادرة على العمل من تلقاء نفسها، دون حاجة إلى تدخل بشري، وأكثر من ذلك، قدرتها على صناعة آلات أخرى وتحديد مهامها، لينحصر التدخل البشري في أدناه، على المستوى التكنولوجي، لتبقى المسؤولية الأخلاقية والجنائيّة.

مثال ذلك، أن تجد سيارة دون سائق ذاتها "مخيّرة" بين الاصطدام بسيارة أخرى أو دهس إنسان؟ ما هو الخيار ومن هي الجهة التي تتحمّل مسؤوليته.

هل نستطيع إغلاق الدائرة؟

لا يخفي عديد العلماء العارفين بمجال الذكاء الاصطناعي، أنّ الهدف الأبعد بالمعنى الاستراتيجي، يكمن في صناعة جيل من الروبوتات قادر على صناعة الآلات الضرورية لتوفير جميع الحاجيات البشريّة، بمعنى صناعة كائنات ذات قدرة ذهنية خارقة، قادرة بدورها على صناعة كائنات تؤدّي دور العامل الذي يتولى توفير المنتجات الغذائيّة كما جميع المواد الاستهلاكيّة، سواء منها الماديّة أو الثقافيّة، لتكون دائرة مغلقة، تعمل من تلقاء ذاتها، تعمل أسوة بالنحل، حيث الملكة والعمّال الذين يتولون تربية اليرقات، دون تدخّل الكائن البشري، الذي يجني العسل، وفي أقصى الحالات يوفّر الغذاء زمن الجدب.

عند هذا الحدّ، يكون السؤال عن طبيعة الوجود البشري، حين لا أحد مجبر على العمل. الكلّ (نظريا) يعيش حالة عطلة دون حدود!

في مقابل ذلك، يطرح آخرون سؤالا مهمّا: هل تتخلّى الأقليّة الماسكة لناصية الذكاء الاصطناعي عن الأنانيّة المؤسّسة لروح الرأسمالية، وتهدي هذه الجنّة الموعودة للجميع؟