قضايا وآراء

قراءة في دلالات ونتائج الجولة الخليجية للرئيس أردوغان

"طويت صفحة الجفاء والقطيعة"- واس
تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرة أخرى الثلاثاء في تجمع بالعاصمة أنقرة عن جولته الخليجية الأخيرة ودلالاتها ونتائجها المهمة، مركزا بالتحديد على أكبر عقد للصناعات الدفاعية في تاريخ البلاد، قاصدا بالطبع العقد الذي وقّعته شركة بايكار للطائرات المسيّرة مع وزارة الدفاع السعودية؛ ليس فقط لتصدير الطائرات الظافرة الفعالة ذائعة الصيت "بيرقدار"، وإنما لنقل الخبرات التقنية والدفاعية أيضا إلى البلد الإسلامي الشقيق.

في الحقيقة، كانت جولة الرئيس أردوغان الأسبوع الماضي جد مهمة ومفصلية للعلاقات التركية العربية والخليجية بشكل خاص؛ كونها شملت السعودية وقطر والإمارات بموازاة العلاقات القوية والراسخة أصلا مع الكويت وعمان، والعائدة إلى طبيعتها الجيدة والمستقرة مع البحرين، بحيث بتنا بالعموم أمام صورة عن العلاقات التركية مع المحيط العربي الإسلامي والخليجي تحديدا.

بالعودة إلى الجولة، يمكن التمييز والفصل بين المحطة القطرية ومحطتي السعودية والإمارات، بمعنى أن العلاقات مع الدوحة اتخذت طابعا استراتيجيا مع تأسيس المجلس الاستراتيجي الأعلى قبل 10 سنوات تقريبا، الذي يجتمع سنويا بانتظام على مستوى القمة بشكل متبادل بين أنقرة والدوحة، ما يفسر من جهة أخرى عدم توقيع أي اتفاقيات خلال الزيارة الأخيرة للرئيس أردوغان، وإرجاء ذلك إلى الاجتماع القادم للمجلس نهاية العام الجاري، علما أنه خلال الدورات التسع الماضية، جرى التوقيع على 80 اتفاقية بين الجانبين غطت جوانب العلاقات المختلفة، مع أرقام لافتة عن الروابط الاقتصادية وحجم الاستثمارات بين البلدين -آلاف الشركات ومليارات الدولارات-، والأهم من ذلك رسوخ العلاقات الراسخة المتطورة والصامدة في مواجهة التطورات والأزمات العاصفة بالمنطقة خلال العقد الماضي.

يعود تحسن العلاقات بعد فترة من الجفاء والقطيعة لعدة أسباب؛ منها الانكفاء الأمريكي عن المنطقة في ظل إدارة جو بايدن، وحتى سلفه دونالد ترامب الذي عمد إلى الاستعاضة عن حضور واشنطن برعاية مسيرة التطبيع الجديدة مع إسرائيل، بينما فهمت دول الخليج المطبّعة والمؤيدة، أن التطبيع قاصر عن توفير الأمن والاستقرار والسلام، ناهيك عن السياسات العدوانية والمتطرفة للحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي لا تترك مجالا أمام التعاون والتنسيق لمواجهة الأزمات ومشاكل المنطقة، والفراغ الناجم عن الانكفاء الأمريكي والعدوانية والغطرسة الإيرانية المتزايدة.

إضافة إلى السياق العام السالف الذكر، يمكن الحديث عن معطيات محددة تخص زيارة الرئيس أردوغان للرياض وأبو ظبي، حيث يعود تحسن العلاقات بعد فترة من الجفاء والقطيعة لعدة أسباب؛ منها الانكفاء الأمريكي عن المنطقة في ظل إدارة جو بايدن، وحتى سلفه دونالد ترامب الذي عمد إلى الاستعاضة عن حضور واشنطن برعاية مسيرة التطبيع الجديدة مع إسرائيل، بينما فهمت دول الخليج المطبّعة والمؤيدة، أن التطبيع قاصر عن توفير الأمن والاستقرار والسلام، ناهيك عن السياسات العدوانية والمتطرفة للحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي لا تترك مجالا أمام التعاون والتنسيق لمواجهة الأزمات ومشاكل المنطقة، والفراغ الناجم عن الانكفاء الأمريكي والعدوانية والغطرسة الإيرانية المتزايدة.

إلى ذلك، ثمة شعور لدى البلدين بأهمية ودور وحضور أنقرة الإقليمي والدولي بالسنوات الماضية، حيث حضرت هذه النقطة في خطاب الإعلام الخليجي والعربي خلال الزيارة، كما أتت مباشرة على لسان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الثلاثاء، في أثناء زيارته إلى أنقرة.

وعليه، ثمة اتجاه بات واضحا ومتجذرا لدى الرياض وأبو ظبي، بأنه لا يمكن تجاهل أنقرة، كما أن المصالح حتى الداخلية والمحلية تقتضي التعاون معها، والاعتماد عليها خاصة بالشؤون الدفاعية، في ظل التهديدات المتعددة التي تتعرض لها الدولتان، بينما أثبتت أنقرة وقيادتها الواثقة من نفسها وصناعاتها الدفاعية المتطورة أنها صديق وحليف موثوق ومصداق.

إضافة إلى ما سبق، ثمة تفكير خليجي في تنويع مصادر الثروات والدخل، علماً أننا نتحدث عن اقتصادين قائمين أساسا على النفط والطاقة، وهنا تبدو السوق التركية جذّابة وحاضرة ومستقرة وراسخة وواعدة.

في السياق، لا بد من التذكير بحقيقة أن تركيا لم تكن المبادرة للجفاء، والمبادرة للعداء، وهي ليست في تنافس مباشر جيوبولوتيكي أو اقتصادي مع الإمارات والسعودية، حيث دافعت أنقرة عن مصالحها وأمنها في محيطها المباشر في الدول العربية المجاورة (سوريا والعراق وليبيا)، التي تعتبر دولة جوار من الناحية البحرية، بينما كان التدخل الإماراتي مثلا في هذه الدول، خاصة الأخيرة، مؤذيا وضارا وغير مبرر بأي حال من الأحوال، ولا يخدم مصالح أبو ظبي حتى بالمعنى الضيق للكلمة.

تجاه الرياض أيضا، ليس من خلافات أو تباينات بل اتفاق سياسي وعام تجاه معظم مشاكل وأزمات المنطقة، كما أن تركيا لم تسعَ أبدا للتصعيد في قضية الشهيد جمال خاشقجي، وسعت إلى التفاهم والعمل والتنسيق الثنائي المباشر مع السعودية لجلاء الحقيقة، ومحاسبة المذنبين والمسؤولين عن الجريمة البشعة بشكل قانوني عادل وشفاف.

لا بد من الانتباه كذلك إلى أن المراجعة أو الاستدارة بالمواقف أتت أولا من الإمارات، التي تزعّمت المحور المعادي لتركيا سياسيا وإعلاميا، عبر زيارة مستشار الأمن القومي طحنون بن زايد لأنقرة قبل عامين، التي وضعت خلالها بذور وأسس العلاقات وفتح صفحة جديدة، وأدت إلى زيارات القمة المتبادلة مع الإمارات والسعودية، كما الانفتاح ورفع مستوى العلاقات مع مصر أيضا.

طويت صفحة الجفاء والقطيعة والتجاذب إلى غير رجعة، والتعاون التركي مع السعودية والإمارات بات يلامس حدود العلاقة الاستراتيجية مع النتائج التي تمخضت عنها زيارة الرئيس التركي الأخيرة والحجم الضخم للاتفاقيات الموقعة بعشرات مليارات الدولارات، التي غطت مجالات متنوعة حيوية واستراتيجية، وبما يشمل التنسيق والاستثمار المتبادل في قطاعات الطاقة والغاز والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية.

بناء على ما سبق كله، طويت صفحة الجفاء والقطيعة والتجاذب إلى غير رجعة، والتعاون التركي مع السعودية والإمارات بات يلامس حدود العلاقة الاستراتيجية مع النتائج التي تمخضت عنها زيارة الرئيس التركي الأخيرة والحجم الضخم للاتفاقيات الموقعة بعشرات مليارات الدولارات، التي غطت مجالات متنوعة حيوية واستراتيجية، وبما يشمل التنسيق والاستثمار المتبادل في قطاعات الطاقة والغاز والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية.
 
بالعموم، وفي ظل استمرار الانكفاء الأمريكي عن المنطقة، ومواصلة إيران سياساتها التوسعية والدموية المستندة إلى القوة الخشنة الفظة والمنفلتة، تتأكد مكانة تركيا كشريك مصداق وموثوق، وعلى عكس طهران مثلا، تملك إسطنبول علاقات أخوية تاريخية ووثيقة مع الدول العربية تمتد لمئات السنين، وتستند إلى مصالح راسخة وواسعة وعميقة، ولا يقل عن ذلك أهمية التقبل والحماس الشعبي العربي والخليجي الطاغي تجاه تركيا وقوتها الناعمة، من سياحة وتجارة وصناعة وما إلى ذلك.

أخيرا وباختصار وتركيز، أكدت جولة الرئيس أردوغان الأخيرة أن مساحة التوافق والمصالح كبيرة وواسعة مع الدول الخليجية، وتركيا تتصرف كما العادة بذهنية الشراكة وفق قاعدة رابح- رابح، حسب التعبير الشهير للرئيس التركي. كما قدمت الجولة من جهة أخرى صورة عن المشهد الإقليمي المستجد، حيث بإمكان دول المنطقة الاعتماد على نفسها والاستفادة من قدراتها وثرواتها الهائلة لتحقيق مصالح ورفاه شعوبها، بعيدا عن أطماع الدول الأجنبية وتدخلاتها المؤذية والضارة.