أفكَار

عم يتساءل المبشرون بنهاية الإسلام السياسي؟ سؤال الانبعاث الحضاري

أبو يعرب المرزوقي: لا أعجب من أن يصبح القول باستئناف دور أمة الإسلام الكوني عند جل حكام المحميات وعملائهم من النخب أعسر تصديقا حتى من البعث الأخروي.
هذا فصل يجيب عن الأسئلة الخمسة التالية بمفهومات لم أبدعها بل هي مجرد ترجمة فلسفية أبدعتها المدرسة النقدية الإسلامية وخاصة بطليها الأخيرين أي ابن تيمية وابن خلدون وأدى إلى إهمالها الفكر المدرسي المسيطر قديما وحديثا عند نخب العرب والمسلمين:

1 ـ ما علامة إرادة الإنسان الحرة؟ أي ما علامة ضرورة الجهاد؟
2 ـ  ما علامة حكمة الغنسان الراحجة؟ أي ما علامة ضرورة الاجتهاد؟
3 ـ  ما علامة معاني الإنسانية:؟ أي ما علامة ضرورة رعاية الذات وحمايتها؟
4 ـ  ما علامة السياسة المحافظة على البأس؟ أي ما علامة سياسة الإسلام في التربية والحكم الممكنين من تكوين الإنسان بما يبقي على هذه القيم؟
5 ـ ما علامة  كون الإنسان "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له"

تلك هي ثورة المدرسة النقدية الإسلامية التي هي بداية الاستئناف الذي لا مرد له.. لا أعجب ممن يتهم ما أبشر به بكونه من الأوهام. فانبعاث الحضارة التي يعتقد الكثير من العلماء بوعي بعمالتهم أو بعدم وعي أنها قد ماتت يبدو شبه مستحيل.

ولا أعجب من أن جهدهم قد صار يستهدف المشاركة في دفنها مع أعدائها بدعوى المشاركة في بديل منها هدفه وإن بغير قصد تحقيق ما عجز دونه الأعداء فصاروا هم ألد الأعداء:  نخب التحديث بالتقليد والعنف .

لذلك فإني لا أعجب من أن يصبح القول باستئناف دور أمة الإسلام الكوني عند جل حكام المحميات وعملائهم من النخب أعسر تصديقا حتى من البعث الأخروي.

ومع ذلك فإني لم أتخل يوما عن الإيمان بأن الانبعاث صار قاب قوسين أو أدنى ليس بفضل جهاد القلة واجتهادهم فحسب بل خاصة بسبب ما تتأسس عليه حضارة الإسلام من رؤية هي جوهر معاني الإنسانية بالمعنى الخلدوني للكلمة (المقدمة الفصل 40 من بابها السادس).

وهذه المعاني هي ما أريد شرحه في الفصل الثاني من "عم يتساءلون" ولكن هذه المرة سيكون مدار الكلام اكتشاف معنى "معاني الإنسانية" وصلتها بما وصفته ذات مرة بالقول إن عبارة "إسلام سياسي" بدون إسم أي إن دلالة أي من المفردتين هي عين دلالة الثاني.

فلا فرق بين القول إسلام وبين قول سياسة الإنسان ذي الإرادة الحرة والحكمة الراجحة فردا كان أو جماعة، بمعنى أن الأمر يتعلق ببعدي تدبير الإنسان لشروط قيامه الحر والكريم رعاية لقيامه العضوي وحماية لقيامه الروحي.

وفي تحقيق ذلك يكون حائزا على معاني الإنسانية وفي التخلي عن ذلك يكون فاقدا لمعاني الإنسانية.

وبين هذين الحدين توجد المتوالية من:

1 ـ درجات المحافظة على حرية الإرادة ورجاحة الحكمة نزولا من حقيقة الإنسان بوصفه "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له" (المقدمة الفصل 6 من بابها الثاني): أي درجات التبعية للغير بسبب فساد معاني الإنسانية.

2 ـ واستردادها في حالة فقدانها صعودا من العبودية لغير الله إلى التحرر منها بما حددته سورة العصر للخروج من الخسر أي الإيمان بالله والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر أي التحرر من التبعية للغير بسبب إصلاح معاني الإنسانية.

فتكون بداية الاستئناف الحضاري واسترجاع الدور هو انتشار الوعي بأن الأمة بلغت الغاية في الانحطاط الذي هو في آن انتشار الوعي بمضمون سورة العصر أي بعلل الخسر أو الرد أسفل سافلين فيصبح هذا الوعي:

1 ـ بحثا عن شروط استرداد التقويم الأحسن الذي هو بالذات تعريف الإنسان: "رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له".

2 ـ فيترتب عليه الإيمان الصادق (لا معبود غير الله): بحيث إن تحرير الإرادة وترجيح الحكمة يترتبان عن العبودية لله وحده والتحرر من كل تبعية لغيره.

3 ـ والعمل الصالح (لا حياة من دون المشاركة في قيام الجماعة): فتنتقل الجماعة من التناحر إلى الشعور بأنها كالحسد الواحد تصيب  الحمى كل كيانه إذا اشتكى منه عضو.

4 ـ  والتواصي بالحق (ولا يحصل الأول والثاني من دون الصدق في التواصل والاجتهاد).

5 ـ والتواصي بالصبر (كل ذلك يعني ضرورة تحمل نتائج الجهاد والصبر لأن الإستئناف يقتضي المطاولة).

وذلك هو الاستئناف الذي يعني في الحقيقة التحرر من التحريف الذي أصاب
معاني القرآن الكريم وهو قابل للرد إلى معنيين لا ثالث لهما  وإن كان لهما نتيجتان تناظرهما وتؤديان إلى الانحطاط أو الخسر: 

يتبين أن الوعي بالوصول إلى القاع في الانحطاط كان في آن الوعي بشروط الأنبعاث: فيكون ما أنسبه إلى المدرسة النقدية وخاصة لبطليها الأخيرين أي ابن تيمة وابن خلدون: أولهما في فلسفة النظر وتطبيقاته والثاني في فلسفة العمل وتطبيقاته.
قلب دلالة آل عمران 7: فالآية تنهى عن تأويل المتشابه وتصفه بكون علة مرض القلوب وابتغاء الفتنة وهما بالذات علة الانحطاط في الأخلاق الفردية والجماعية أي جوهر الخسر والرد أسفل سافلين لأنه يؤدي إلى الاقتتال الداخلي وهو معنى الخسر.

قلب دلالة فصلت 53: فالآية تأمير برؤية آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) ورؤية آيات الأنفس (مناعة البدن وحصانة الروح) أو جوهر العمل والنظر من أجل تحقيق:

شروط الرعاية (في علاقة بإنتاج الثروة المادية والرمزية وتطبيقاتهما)
وشروط الحماية (في علاقة بإنتاج التراث العلمي والعملي وتطبيقاتهما)

وهما إذا لم يكونا ذاتيين فإن الأمة تصبح عالة على الغير وتلك هي غاية الانحطاط الذي وصلت إليها الأمة خلال قرون لكنها شرعت في طلب عللها وعلاجها وهو ما خصصت له جل عملي منذ سنتي الأولى في دار المعلمين.

وفي ذلك يقول ابن خلدون في كلامه على العلة السياسية المتعلقة بالتربية والحكم: "وفسدت معاني الإنسانية التي له (للإنسان) من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزلة وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في اسفل سافلين" القدمة الفصل 40 من بابها السادس).

وبذلك يتبين أن الوعي بالوصول إلى القاع في الانحطاط كان في آن الوعي بشروط الأنبعاث: فيكون ما أنسبه إلى المدرسة النقدية وخاصة لبطليها الأخيرين أي ابن تيمة وابن خلدون: أولهما في فلسفة النظر وتطبيقاته والثاني في فلسفة العمل وتطبيقاته.

شروعا في الاستئناف حتى وإن ظل فاقدا للتأثير بسبب سيطرة التحريفين اللذين حاولا علاجهما:

فتحريف النظر والعقد كان مجال البحث التيمي وهو تحريف انتج مرض القلوب وابتغاء الفتنة وينسب خاصة إلى المتكلمين والفلاسفة في تحريف الأقوال والاجتهاد وإلى الفقهاء والمتصوفة في تحريف الأفعال والجهاد.

وتحريف العمل والشرع كان مجال البحث الخلدوني وهو تحريف نتج عن تطبيق التحريفين السابقين في  الإحالة دون تحقيق شروط المناعة العضوية للجماعة.

أي إنتاج الثروة وتطبيقاتها وشروط المناعة الروحية للجماعة أي إنتاج التراث وتطبيقاته وهو معنى التحول إلى عالة بالمعنى الوارد في الشاهد الذي قدمته من الفصل 40 من الباب السادس من المقدمة.

وفيه وصف لحال الأمة التي فسدت فيها معاني الإنسانية كما شخصها ابن خلدون الذي كان على بينة من الأمر عندما بين ما حصل بالأمة في الأندلس والمغرب وقارن حال العلوم الصاعدة في الغرب وحالها النازل عند المسلمين.

وما حال دون ثمرات هذه الرؤية التيمية والخلدونية خاصة والمدرسة النقدية للانقلابين المحرفين للنظر والعقد والعمل والشرع علتي الانحطاط هو سيطرة المدرسية التي كانت رموزها الأربعة الغالبة ممثلة برجلين من الغرب الإسلامي وهما: ابن رشد وابن عربي وبرجلين ممثلين للمشرق الإسلامي وهما السهروردي المقتول والرازي.

لكن ذلك لم يحل دون شروع المسلمين بعد ابن تيمية وابن خلدون من الوعي بتردي وضعية الأمة بالمقارنة مع أعدائها في الصراع بين الحضارتين الغربية  والإسلامية.

لكن قوة المدرسية المربعة وعطالة الانحطاط حالت دون فهم المقاومة التي شرع فيها ابن تيمية في الشرق الإسلامي وابن خلدون في الغرب الإسلامي وكان يمكن الانتصار لو لم يحصل أمر مذهل هو وهم إحياء الحضارة الإسلامية بالاعتماد على هذه المدرسية كما هو بين من الجدل الذي دار بين محمد عبده وفرح أنطون.

وفي نفس الحين بدأ الجدل حول إحياء المدرسة النقدية وكان يمكن لنوعي الجدل أن يثمر تقدما مفيدا يجمع بين التوجهين لولا سيطرة التوجه الذي مثله فرح أنطون وتغلب المدرسة التي يمكن اعتبار طه حسن رمزها أي افسد فهم لنقد التراث بمنظور التهديم والتعويض بالتقليد البليد.

فصار الحكم على المدرسة النقدية بكونها علة التخلف وهو ما فرضه التشويه القصدي للتشخيص المحرر من التبعية: والرمز كتابان صارا مصدرا لإحياء مدرسية التحريف المربع للنظر والعقد وللعمل والشرع: كتاب ابن رشد اللاتيني وكتاب المقابلة بين اليسار الأرسطي واليمين الأرسطي قياسا على اليسار الهيجلي واليمين الهيجلي.

وحتى من رد عليهم من رفض هذين الرؤيتين فإنه بقي منتسبا إلى المدرسية القائلة بالمطابقة ومن ثم فهو لم يتحرر من الهيغلية والماركسية اللتين تمثلان عند الحداثيين ما كان يمثله إفلاطون وأرسطو عند المدرسيين فلم يكن بالوسع فهم أبعاد المدرسة النقدية التي كانت ولا تزال أساس الاستئناف الفعلي للرؤية القرآنية في مجالي النظر والعقد والعمل والشرع.