أفكَار

طوفان الأقصى وتحول المعادلات الاستراتيجية والفكرية والسياسية والقيمية للأمة

السؤال القيمي الذي طرحته الحرب على غزة، هو حاجة العالم إلى نموذج آخر، يكون أقدر على تمثل القيم وتمثيلها واحترامها، نموذج يرعى حرمة الأطفال والنساء والشيوخ.. (الأناضول)
مسار أكثر من سبعة عقود من مقاومة الاحتلال الصهيوني، أفرز تبلور نظريات عدة يتعلق بعضها بطبيعة المقاومة الفلسطينية في ظل تغير المعادلة العربية، ويتعلق بعضها بحدود الرهان على العالم العربي، أو على دول الطوق، وهل هي دول حاضنة للمقاومة، أم مساندة لها، أم متواطئة ضدها تريد التخلص من وجع رأسها، أم تفكر في تأمين حدودها على حساب القضية الفلسطينية وثوابتها، كما تحركت في الآونة الأخيرة نقاشات حول محاور المقاومة ودولها، وطبيعة علاقتهم بالقضية الفلسطينية، وهل هي علاقة دعم وإسناد؟ ام دول تربطها بالمقاومة علاقة توظيف واستعمال لخدمة مصالح إقليمية؟

في الجانب الآخر المتعلق بالسياسة الدولية اتجاه القضية الفلسطينية، وبالتحديد الشرعية الدولية، فقد تحركت نقاشات مطردة ابتدأت من نقد الدول الغربية، التي تبنت سياسة الكيل بمكيالين في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، وانتقلت إلى بيان تناقضات الممارسة الدولية، وبخاصة منها الأمريكية والأوروبية،  لتنتهي في المحصلة إلى تعرية الوجه الحقيقي للمسؤولين الغربيين، الذين يوفرون الغطاء للاحتلال لضرب  الأسس الحقوقية والإنسانية التي يقوم عليها القانون الدولي، سواء من خلال إضفاء مضمون وحشي على مفهوم "الدفاع عن النفس"، أو تعطيل فعالية المؤسسات الدولية في كبح جماح الاحتلال الذي يدوس كل المحرمات ويتعدى كل الخطوط الحمر (استهداف المدنيين، قتل الأطفال والنساء، استهداف دور المساجد والكنائس، تدمير المستشفيات على رؤوس المرضى، استهداف مؤسسات الأمم المتحدة ومدارسها).

هذه النقاشات جميعها، لا تمثل بالنسبة إلى تطور القضية الفلسطينية الجوهر الذي ينبغي على المفكرين التركيز عليه في هذه المرحلة، فهي على أهميتها، لا تمثل سوى امتدادا للأطاريح الفكرية التقليدية التي واكبت القضية الفلسطينية منذ أكثر من سبعة عقود.

الجوهري في هذه المرحلة، يطال أربعة مستويات أساسية، الأول استراتيجي، والثاني فكري، والثالث سياسي، والرابع قيمي أخلاقي.

في القضية الاستراتيجية.. الحسم في المعركة للديمغرافيا

مهما يكن التعقيد الذي يطال عملية فهم مقاصد السياسة الحربية الصهيونية، وكذا التخبط الذي تعانيه بسبب صلابة المقاومة الفلسطينية في غزة، فإن الثابت في التفكير الصهيوني، النظر إلى قطاع غزة على أساس أنه قنبلة ديمغرافية غير قابلة للتفكيك، وذلك لثلاث أسباب رئيسة:

أولها، أن المعادلة الثقافية والدينية في غزة تسير ضدا على المنطق المادي الذي يؤطر العقل الغربي عامة والعقل الصهيوني خاصة. فالمفروض، حسب المنطق المادي، أن التوالد في أي منطقة من مناطق العالم يخضع لمؤشرات الدخل وكلفة المعيشة، ومدى القدرة على تحملها، وأن المسار الحتمي الذي يطرد في كثير من الشعوب والتجارب، هو توجه الأسر للاكتفاء بطفلين على الأقصى للأسرة الواحدة، لكن المفارقة، أن غزة، التي تضطرب فيها كل المعايير والمؤشرات المادية، تعرف نسب توالد كبيرة مقارنة مع ما تعرفه نسب الخصوبة في الدولة العبرية، فحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد كان انخفاض الخصوبة بسبب من تأثير الظروف المعيشية محدودا، وذلك من 4.6 في 2003 إلى 4.1 في 2017 ليصل 3.8 خلال 2019 بواقع 3.8 مولود في الضفة الغربية، مقابل 3.9 مولود في قطاع غزة. وفي المقابل، رغم سياسات دعم الإنجاب في الدولة العبرية، لا تتجاوز نسب الخصوبة دائرة الإحصاء الإسرائيلية معدل 3.1 مولود.

قد يبدو الحديث عن المعركة الديمغرافية أمرا غير ذي بال، بحكم الفارق الضئيل في نسبة الخصوبة بين الفلسطينيين (حوالي4 مولود)، وبين الاحتلال الصهيوني (3.1 مولود)، لكن الأمر لا يتوقف عند حدود الخصوبة، وإنما يدخل عنصر آخر، له تأثير مفصلي على المعادلة الديمغرافية، ويتعلق بالهجرة، والتي تحيد خصوبة المهاجرات، وتجعله يصب في غير الصالح الإسرائيلي.

كانت الوضعية العربية قبل طوفان الأقصى، تسير في اتجاه متسارع نحو التطبيع، مع شعور الأردن بسيناريو الاستهداف يقترب منه، ومحاولة للتحرك السريع على الواجهة العربية لمنع هذا الاستهداف أو تعطيله أو إبطائه.
يتعلق الأمر باتجاهين في الهجرة، الأول، هو تراجع كبير لأعداد المهاجرين لإسرائيل، بعد أن كان الاعتقاد سائدا لدى دائرة الإحصاء الإسرائيلية أن أعداد الهجرة المكثفة إلى إسرائيل، ستسمح بتزايد ديمغرافي إسرائيلي قد يصل إلى 11 مليون مع حلول سنة 2030. والثاني، هو هجرة اليهود من إسرائيل إلى دول أخرى خاصة أوروبا (تزايد طلب الجنسيات المزدوجة لدى الإسرائيليين)، فحسب المصدر ذاته، فقد سجلت الحرب على قطاع غزة سنة 2014، هجرة حوالي 17 ألف يهودي إسرائيلي، لتستمر الهجرة مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم، لتصل ذروتها مع اندلاع الاحتجاجات على خلفية تبني حكومة نتنياهو تعديلات على التنظيم القضائي (حوالي 28 في المائة من الإسرائيليين حسب استطلاع أجرته القناة 13 الإسرائيلية).

وإذا كانت هذه الإحصاءات تخص حرب غزة سنة 2014،  وتداعيات التعديلات على التنظيم القضائي، فإن الهجرة التي سجلت  بعد عملية طوفان الأقصى بلغت مستوى قياسيا، وأجهزت على أهداف سياسات إسرائيل لإحداث انتعاشة ديمغرافية حاسمة لاسيما في غلاف غزة، فحسب تقرير لصحيفة "ماركر" مستفاد من إحصاءات المعابر والمطارات الإسرائيلية، فقد غادر الدولة العبرية أكثر من 230 ألف إسرائيلي في اتجاه أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وأن هذه الظاهرة ستتوسع أكثر مع اشتداد التوتر واندلاع حرب إقليمية.

في المقابل، فإن تدخل المحددات الدينية والثقافية في غزة، وفي كامل فلسطين، فضلا عن الوعي بالسوابق التاريخية في سياسة التهجير، جعلت الرهان على التوالد كسلاح في المعركة مع إسرائيل جزء من القناعات التي رسخت في بنية التفكير الفلسطينية رغم قساوة العيش وعدم تشجيع العوامل المادية، كما جعلت من التشبث بالأرض ومقاومة سياسية التهجير، قناعة دينية راسخة، لا سبيل إلى تغييرها، ولذلك، يعمل الكيان الصهيوني على جعل سياسته التدميرية أداة لفرض تغيير قسري لهذه القناعة تحت واقع الدم والنار.

ثانيهما، أن سياسة التهجير كبديل عن إيقاف مسلسل التوالد، باتت بدون أفق سياسي، وذلك لسببين اثنين، الأول، أن التهجير يتطلب بلدا مهجرا إليه، والثاني، أن التهجير يتوقف على حصول مصلحة راجحة تحفز البلد المرشح لاستقبال المهجرين لأن يكون جزءا من العملية.

التجارب السابقة، سواء في لبنان، أو الأردن أو سوريا، تثبت مخاطر أن تستدرج مصر والأردن لقبول هذا الخيار، وأن ذلك يمثل خطا أحمر يمس بجدار الأمن القومي، وأن الخطوة التالية، ستكون بكل تأكيد هي مصر أو الأردن، أو أي بلد حدودي قبل الانخراط في هذه اللعبة، وهذا ما يفسر بالتحديد الموقف القوي الذي عبرت من عمان والقاهرة.

أما الثالث، فيتعلق، بمحدودية الرهان على سياسة التقتيل في التأثير على البنية الديمغرافية الفلسطينية، فثمة رهان لدى المكونات المتطرفة في حكومة نتنياهو على آلة الحرب، واستهدافها للمدنيين، وبشكل خاص النساء والأطفال، لإبطال مفعول القنبلة الديمغرافية الفلسطينية، لكن، هذا الخيار الأهوج، هو محدود من حيث السقف الزمني، فالدول التي تقدم الإسناد للاحتلال الصهيوني، وتقبل هذا المعامل الوحشي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، تشترط له سقفا زمينا سريعا، حتى لا يبعثر كل الأوراق، ويخلق حالة عداء عالمي ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحالة عزل كلي للكيان الصهيوني، ويدفع إلى اندلاع حرب إقليمية مفتوحة على كل الجبهات لا يتحملها أمريكا ولا الكيان الصهيوني.

الفاعلية الإنسانية بدل الفاعلية التكنولوجية

قدمت العديد من الثورات دروسا مهمة في هزم أطروحة التفوق التكنولوجي الغربي، فهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية على يد الفيتنام (هوشي منه)، وأفغانستان، طرحت معادلة فاعلية الإنسان في مقابل التفوق الصناعي والتكنولوجي، وجاء "طوفان الأقصى" ليعيد تأكيد هذه المعادلة، لاسيما وأن الأمر يتعلق بأقوى جيش من ناحية التزود بالتكنولوجية الحديثة، وبأكبر جهاز استخبارات في العالم (الموساد).

طوفان الأقصى فجر العديد من الأسئلة التفصيلية بشأن قدرة فصيل من فصائل المقاومة، وليس دولة ولا جيشا، على التلاعب بأنظمة معلوماتية دقيقة، وتجنب الوقوع ضحية المراقبة بالرادارات والكاميرات، كما أثارت الحرب البرية أسئلة أخرى أكثر إحراجا بخصوص القدرات التي يتم بها تدمير أذكى وأفضل الآليات العسكرية عالميا بأدوات بسيطة، وكيف يتم استهداف الجنود والضباط من النخبة في الجيش العسكري، وتسجل أرقام قتلى وجرحى قياسية بالنظر إلى الأدوات البسيطة المعتمدة (160 آلية عسكرية حسب أرقام حماس، وحوالي 43  قتيلا من الجنود والضباط الإسرائيليين حسب الاعتراف الإسرائيلي).

الأسلوب الذي تبنته حماس في الحرب، من خلال اعتماد الأنفاق، والمواجهة من نقطة الصفر، والالتفاف على الآليات العسكرية من الخلف، يرشحه أكثر من خبير عسكري ليدرس في الكليات العسكرية، كنموذج جديد لحرب العصابات أو حرب المدن، لكنه في الواقع، يطرح سؤال الفاعلية الإنسانية في مقابل الفاعلية التكنولوجية.

لقد أيقنت حماس، من خلال اعتبارها من حروب الجيوش العربية، درجة التفوق التكنولوجي للجيش الإسرائيلي، والدعم الأمريكي الذي يمد هذا الجيش بأحدث الأسلحة المجهزة وبأحدث التقنيات الحديثة، وأدركت أن واقع الحصار يحول دون أن تحصل على الحد الأدنى من الأسلحة للمقاومة، واتضح لها في الخلاصة، أن الرهان على التكافؤ التكنولوجي غير ممكن، لا عربيا ولا إسلاميا، فضلا عن أن يكون فلسطينيا، وأن الرهان ينبغي أن يتوجه إلى فاعلية الإنسان، وتحريك قدرته الإبداعية للتسلل من ثغرات التكنولوجيا وأنظمة السلامة والحماية، والامتناع عن استعمال كل التكنولوجيات الذكية الخاضعة للرقابة الأمريكية والصهيونية.

القضية الفكرية الجديرة بالتأمل في هذه القضية، أن جزء من أطاريح النخب العربية بضرورة توطين التكنولوجيا لتحقيق التقدم، تحتاج إلى المراجعة، فالتكنولوجيا ليست فقط أداة للتقدم، ولكنها أيضا -وبحكم طبيعتها- أداة للذليلة والتبعية، ما لم يتم إعمال الفاعلية الإنسانية لتحويرها أو تعديل اتجاهها، أو تحريرها من البنية الرقابية الغربية الثاوية فيها، فالدرس الذي تقدمه الحرب على غزة، أن التقدم لا يرتبط بالرهان على التكنولوجيا الغربية، وإنما يرتبط بفاعلية الإنسان العربي الإسلامي في فهم  بنية التكنولوجيا، وقواعد اشتغالها، والثغرات التي تخترق أنظمتها، حتى يتسنى لهذا العقل أن يحكم التعامل معها وألا يجعل مخرجاتها تصب في مصلحة صانعيها.

سؤال الأمن العربي من جديد؟

من تداعيات طوفان الأقصى والحرب الصهيونية على غزة، أنها أنتجت معادلة سياسية جديدة، أنتجت تحديات جديدة على العالم العربي.

فقد كانت الوضعية العربية قبل طوفان الأقصى، تسير في اتجاه متسارع نحو التطبيع، مع شعور الأردن بسيناريو الاستهداف يقترب منه، ومحاولة للتحرك السريع على الواجهة العربية لمنع هذا الاستهداف أو تعطيله أو إبطائه.

أما سوريا ولبنان، الدولتان، اللتان تنتميان إلى محور المقاومة، فقد الجأتهما الظروف ليعيش كل واحد منهما أوضاعا خاصة، فسوريا، بحكم الصراعات الدولية والإقليمية التي تخترق أراضيها أضحت عاجزة تماما عن لعب دور ما في اتجاه تعزيز جبهة الممانعة، إلا أن تتحرك القوى التي تدور في فلك إيران لخدمة أجندتها الإقليمية في المنطقة، في حين لا تزال لبنان على إيقاع أزمتها السياسية، لم تستطع إلى اليوم أن تفك خيوطها.

لقد تتبع العالم نماذج من رعاية حماس للأسرى، وتقديم الطعام لهم، وتأمينهم من الخوف، وتقديم الرعاية الطبية لهم، وحرصها على حياتهم، وقدم الأسرى تصريحات بذلك، أحدثت زلزالا عنيفا في الداخل الإسرائيلي وأحرجت الساسة وقيادات الحرب، وأزعجت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حتى بدا الحديث إسرائيليا وأمريكا عن شرعية تمرير هذه الرسائل التي لا تخدم الحرب على حماس
حصيلة الوضع العربي بكل حالاته كانت خادمة للمصلحة الإسرائيلية، بل تسير في اتجاه توصيف قيادات المقاومة على أساس أنها فصائل "مزايدة ومغامرة تجر المنطقة إلى ما لا يحمد عقباه".

لقاء القمة العربية الإسلامية الأخير المنعقد الرياض، والنقاشات القوية التي دارت فيه، أبانت عن تحول كبير في الرؤية السياسية والأمنية العربية، على الأقل بالنسبة إلى مصر والأردن، فبعد أن ظهرت أجزاء مهمة من الأجندة الصهيونية والأمريكية في المنطقة، لاسيما قضية التهجير إلى سيناء وإلى الأردن، تغير العقل السياسي العربي بشكل كامل، وتغيرت العقيدة الأمنية العربية برمتها، وتغيرت معها الرؤية إلى حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية.

فمصر التي كانت تعتقد أن اتفاقية السلام مع إسرائيل تؤمنها وتجعلها في منأى عن الاشتباك مع إسرائيل، أضحت هي المستهدف الأول، بنقل غزة بكل مشكلاتها وفصائلها المسلحة إلى أرض سيناء، بما يعني تحويل مصر إلى جبهة صراع داخلي وخارجي، والأردن التي تفطنت إلى رهانات صفقة القرن مبكرا، أضحت مجبرة على إقناع العالم العربي  بمحاربة مخططات التهجير، باعتبار ذلك مدخلا إلى استهداف الدول العربية  الأخرى، ومن ثمة ترسخ الاعتقاد بأن إسرائيل لا تريد فقط تصدير أزمة فلسطين إلى الأردن ومصر، بل تريد أن تحتل كل أرض فلسطين، وتجهز على مسار التسوية برمته وتنهي مخرجاته الحالية، وتجهز أيضا على السلام مع كل من مصر والأردن، وتخلق في المحصلة المبرر لكي تقوم بالخطوة القادمة، أي استهداف مصر والأردن، بحجة وجود مقاومة فلسطينية تصدر من أراضي البلدين اتجاه إسرائيل.

وتبعا لهذه التحولات، تغيرت العقيدة الأمنية العربية، وصارت غزة جزءا من منظومة الأمن الإقليمي لمصر، وصارت الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي، بل صارت مقاومة حماس والفصائل الفلسطينية للعدو الصهيوني في غزة والضفة ضرورة حيوية أمنية لكل من مصر والأردن، بل وللعالم العربي برمته.

هذا التحول، سيدفع من دون شك عدد من الدول العربية إلى إبطاء الخطو نحو التطبيع، وسيدفع الدول التي طبعت إلى مراجعة هذا المسار بالكامل، بل سيدفع الدول العربية إلى تغيير نظرتها إلى فلسطين بشكل كامل، فبدلا من الحاجة إلى إسكات المقاومة حتى ينتهي وجع الرأس، سيكون ضروريا في المدى المتوسط والطويل دعم هذه المقاومة، حتى يتم تأمين الحدود العربية، وتوسيع جدار منظومة الأمن المصري والأردني واللبناني وكذلك السوري.

السؤال القيمي

ما من شك أن منحى الإفلاس القيمي لدى الغرب تم تسجيله في أكثر من محطة، لكن الحرب على غزة اليوم، وضعت الإسفين الأخير على واقع الوحشية والعنصرية الأمريكية الصهيونية، فالصد عن نداءات الأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية المختلفة، والإعراض عن النداءات الدولية بوقف آلة الحرب، وعدم الاكتراث بصوت المنظمات الحقوقية الدولية، واستنكارها الشديد لاستهداف الاحتلال الصهيوني كل المؤسسات والهيئات والفئات الهشة المحرم الاقتراب منها بمقتضى القانون الدولي، كل ذلك أنهى الرواية الغربية المستندة إلى القيم، وفرض في المقابل، واقع أن  الحاكمية والقول الحاسم لموازين القوى، وأن القيم هي مجرد ورقة تستعملها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الداعمة للعدو الصهيوني من أجل الضغط على الدول الممانعة أو المصرة على الاحتفاظ بهامش من سيادتها.

وكما أكد منطق تطور المشروع الغربي أن إسرائيل هو الإفراز الطبيعي له والنتيجة الحتمية لمآله، فقد أثبتت حرب غزة أن هذا المُفْرَز هو التعبير الأخير عن إفلاس القيم، وأنه يمثل بالعلن والوضوح الكافي حقيقة الإفلاس القيمي، بل حقيقة النفاق القيمي الغربي.

لقد كشفت التصريحات الإسرائيلية المعلنة الوجه الحقيقي لأمريكا وأوربا، وفضحت نواياهم ورهاناتهم، وأظهرت أن الغرب ليس مؤتمنا على رسالة القيم، وأنه لم يعد مخولا بأي حال من الأحوال أن يلعب دور ممثل القيم وحارسها.

السؤال القيمي الذي طرحته الحرب على غزة، هو حاجة العالم إلى نموذج آخر، يكون أقدر على تمثل القيم وتمثيلها واحترامها، نموذج يرعى حرمة الأطفال والنساء والشيوخ، ويقدس الأدوار التي تقوم بها المؤسسات التعليمية والاستشفائية والخدمية، ويميز بين المسلحين والمدنيين، ويحيد المدنيين عن ساحة الصراع، ويوفر لهم الهدوء في مساكنهم، ولا يستعمل الغذاء والماء والكهرباء ومواد العيش الأساسية أسلحة في المعارك، ولا يحول الحرب إلى عقاب جماعي للشعب، أو إبادة لمكوناته.

العالم يحتاج لنموذج متفوق أخلاقيا وقيميا، يجلب إليه الشعوب الأخرى المتشوفة لقيم العدل والكرامة والرحمة والإنسانية. وهي بدون شك ستكون المعركة القادمة التي ينبغي أن يتم الإعداد لها، فالتزاحم على استعمال منطق القوة، لن يقدم إلا نماذج وحشية تقترب قليلا أو كثيرا من النموذج الأمريكي الصهيوني. وفي المقابل، فإن التركيز في مؤسسات التنشئة التربوية على منظومة القيم، وترسيخها في الناشئة، وتحويلها إلى رؤية مؤطرة للمشروع المجتمعي العربي، من شأنه أن يخدم هدف بناء نموذج قيمي ملهم للعالم، قادر على حشد أوسع التأييد من مختلف الشعوب والدول.

لقد تتبع العالم نماذج من رعاية حماس للأسرى، وتقديم الطعام لهم، وتأمينهم من الخوف، وتقديم الرعاية الطبية لهم، وحرصها على حياتهم، وقدم الأسرى تصريحات بذلك، أحدثت زلزالا عنيفا في الداخل الإسرائيلي وأحرجت الساسة وقيادات الحرب، وأزعجت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حتى بدا الحديث إسرائيليا وأمريكا عن شرعية تمرير هذه الرسائل التي لا تخدم  الحرب على حماس في القنوات الإعلامية الإسرائيلية، وبدأ التخطيط  لفرض رقابة صارمة على القنوات، وتمرير خطاب إعلامي واحد يدعم الرواية الصهيونية، مما دفع أزيد من 700 صحفي غربي إلى  إصدار بيان يستنكر ما تنشره المحطات التلفزيونية الأمريكية والغربية من معطيات كاذبة عن حقيقة ما يجري في غزة.

هذا الحدث وتداعياته، يبين الأثر الكبير الذي يحدثه النموذج القيمي المتفوق، وحجم الاستقطاب الذي يخلقه، ودرجة الخطورة التي يمثلها على صناع القرار السياسي الأمريكي والأوربي.