اقتصاد عربي

عودة "الأموال الساخنة".. لماذا لم تتعلم الحكومة المصرية الدرس؟

تتوقع مصر أن تتلقى 20 مليار دولار من عدة شركاء- عربي21

عادت البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية لشراء أدوات الدين الحكومية المصرية مجددا نهاية الأسبوع الماضي، بعد غياب طال لمدة عامين، بعد أن قام البنك المركزي بأمرين؛ هما رفع الفائدة 8 نقاط منذ بداية العام، وخفض رابع للجنيه إلى 50 جنيها للدولار بدلا من 30.85 جنيه.

وقرر البنك المركزي المصري، في اجتماع استثنائي، في السادس من آذار/ مارس الجاري، زيادة أسعار الفائدة بشكل غير مسبوق بمقدار 6% وخفضت عملتها المحلية بنسبة 60% أمام الدولار وبلغت 50 جنيها هبوط من نحو 31 جنيها وسط توقعات بقدوم مليارات الدولارات للاستفادة من الفائدة.

وتعرض الاقتصاد المصري إلى ضربة قوية عندما خرجت  تلك"الأموال الساخنة" في الربع الأول من عام 2022 بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والتي قدرتها الحكومة المصرية بنحو 22 مليار دولار في فترة وجيزة ما أدى إلى أزمة غير مسبوقة في البلاد.


في أعقاب هذا الانسحاب الكارثي من السوق المصري، قال وزير المالية، محمد معيط، في تموز ـ يوليو 2022: "إن الدولة المصرية تعلمت الدرس  فيما يخص الأموال الساخنة من 3 مرات متتالية في 2018 و2020 و2022"، مشيرا إلى أن الدولة وضعت استراتيجية تنص على عدم الاعتماد على هذا النوع من الأموال مرة أخرى.

وشدد على أن الدولة تتجه إلى التوسع في الصناعة والرزاعة، وجذب الاستثمارات التي لم تكن تحدث دون تطوير للبنية التحتية وللطرق، وأن المرحلة القادمة ستشهد تركيزا أكبر على جذب الاستثمارات المباشرة، منوها بأن الرئيس السيسي أعلن عن هدف استراتيجي لـ جذب 10 مليارات دولار سنويا، وهو ما لم يحدث لاحقا.




العودة للأموال الساخنة بفوائد تاريخية


أبرز المؤسسات والبنوك المالية التي عادت للاستثمار في أدوات الدين الحكومية المصرية من جديد: "غولدمان ساكس"، و"سيتي بنك"، و"مورغان ستانلي"، وباع  البنك المركزي أكثر من 101 مليار جنيه من أذون الخزانة، بعائد وصل إلى 32.5% للمرة الأولى في تاريخ العطاءات.

باتت مصر بعد الإجراءات الأخيرة تقدم ثالث أعلى عائد على السندات بالعملة المحلية بين 23 من الاقتصادات النامية تتبعها "بلومبرغ"، بمتوسط عائد يقترب من 30%، وسط توقعات أن يرتفع هذا العائد خلال الفترة المقبلة بسبب الحاجة الماسة للعملة الصعبة.

‌وتوقعت مؤسسات مالية كبرى أنه مع استقرار سعر الصرف الأيام القليلة المقبلة، تعود باقي المؤسسات الأجنبية للاستثمار بأدوات الدين الحكومية المصرية خاصة مع عودة جاذبية سنداتها المحلية بعد خروجهم منها بسبب مقاومة البنك المركزي تخفيض قيمة الجنيه وعدم رفع الفائدة بشكل أكبر.


‌وأذون الخزانة هي ديون قصيرة الأجل تصدرها الحكومة لتمويل عجز الموازنة وتشتريها البنوك المحلية ويتم تحديد قيمة الفائدة على الأذون من خلال العرض والطلب بين البنك المركزي والبنوك الأساسية التي تستثمر بها، وتفضل الحكومة البنوك الأجنبية لأنها تقوم بضخ الدولار في البنوك المحلية وتحولها بسعر الصرف الرسمي.

لماذا عادت الأموال الساخنة؟

يقول خبراء ومحللون اقتصاد لـ"عربي21" إن عودة الأموال الساخنة من قبل المؤسسات والبنوك الأجنبية ليست ثقة في الاقتصاد المصري، ولكن بسبب رفع الفائدة بشكل كبير وخفض قيمة الجنيه ما يجعل من الاستثمار في أدوات الدين الحكومية مربح لها وفرصة لاقتناص أرباح مرتفعة، ما دفع بنك جي بي مورجان الأمريكي لإصدار توصياته للمستثمرين بشرائها.

يأتي المستثمرون من الخارج بأموال اقترضوها من بنوك بلادهم بسعر فائدة منخفض ومن ثم تعيد ضخها في السوق المصري بهدف الحصول على فائدة مرتفعة تغطي تكلفة الفائدة التي يدفعونها في بلادهم، بالإضافة إلى هامش ربح.


يكلف ارتفاع الفائدة 1 في المئة ميزانية الدولة 70 مليار جنيه وبالتالي فإن ارتفاع تكلفة خدمة الدين الحكومي 8 في المئة تتراوح خلال النصف الثاني من العام الجاري من 800 مليار جنيه إلى تريليون جنيه، بحسب ما صرح به مسؤول بوزارة المالية لموقع إنتربرايز.

كيف جذبت مصر الأموال الساخنة؟


أسباب عودة مصر إلى أسواق الدين، يقول الخبير الاقتصادي، ممدوح الولي، إن "النظام المصري أدمن الاقتراض ولا يمكن منعها في ظل عدم وجود مؤسسات منتخبة أو مجتمع مدني تناقش الأزمات التي تحدث في البلد، الأمر الآخر، مصر هي من سعت للأموال الساخنة وليس العكس من خلال رفع الفائدة على أذون الخزانة أعلى من 32% وخفض قيمة الجنيه 60%".

وأضاف لـ"عربي21" أن "هذه المؤسسات والبنوك تبحث على الفائدة المرتفعة في الدول النامية وتواجه مشاكل في السيولة الدولارية، وبعد توفير الفائدة المرتفعة وخفض الجنيه من المتوقع أن يزيد الإقبال على أدوات الدين من جهة وأن يرتفع العائد على أذون الخزانة من ناحية أخرى ولن تتراجع إلا إذا كانت هناك وفرة دولارية، وهو بحاجة إلى بعض الوقت".

وأوضح أن "هذه الأموال بلغة الاقتصاد العصفور الطائر ليست استثمارا حقيقيا، يبحث عن حبة الطعام في أي مكان ثم يطير، ومسألة تعلم الحكومة الدرس من عدمه هو أمر لا يعتد به؛ لأنه تكرر في أكثر من مناسبة وفي أكثر من حدث ونسمع كلام ولا نرى تطبيقات على أرض الواقع والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لحصرها، كان آخرها عدم خفض الجنيه".


‌ورضخت مصر لشروط صندوق النقد الدولي في نهاية المطاف فيما يخص اتباع سعر صرف أكثر مرونة، ورفع الفائدة لاستعادة ثقة المستثمرين في أدوات الدين، بعد أن تعثر الاقتصاد على مدى العامين الماضيين بسبب نقص العملة الأجنبية.

تتوقع مصر أن تتلقى 20 مليار دولار من عدة شركاء متعددي الأطراف وشركاء آخرين، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، بحسب وزير المالية محمد معيط، إلى جانب تعهد الحكومة ببرنامج لبيع بعض الأصول المملوكة للدولة، وتحفيز استثمارات القطاع الخاص.

مصر استنفدت كل الحلول العاجلة


بشأن عودة المستثمرين للسوق المصري رغم التكلفة الباهظة التي تسببوا فيهم لدى خروجهم عام 2022، قال المستشار السياسي والاقتصادي الدولي حسام الشاذلي: "إن مصر استنفدت كل الخيارات في الحصول على مساعدات ودعم إقليمي ودولي ورضخت لشروط الصندوق ورغبات تجار الفائدة حتى يعودوا لشراء أذون وسندات الخزانة والاستفادة من الفائدة المرتفعة".

واعتبر في حديثه لـ"عربي21" أن "عودة مصر لنفس المسار الفاشل الذي سارت عليه في أعوام 2017 و2018 حتى عام 2021 يؤكد أنها تدور ضمن منظومة اقتصادية فاسدة ومسمومة لا أمل في إصلاحها أو تغييرها في ظل الحكم الديكتاتوري واستمرار مقاومة الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية لإعادة بناء الاقتصاد على أسس سليمة".

وتوقع الشاذلي أن "تحقق عودة الأموال الساخنة والإجراءات الأخيرة من قبل البنك المركزي سيولة دولارية وبالتالي تهدئة المخاوف بشأن الوضع الاقتصادي ولكن تأثير تلك الأموال التي تعمل مثل مسكنات مؤقتة لن يستمر طويلا ومن المتوقع أن تعود لرفع الفائدة وخفض الجنيه مجددا؛ بسبب حجم الالتزامات الضخم بسبب خدمة الدين الذي قفز بعد خفض الجنيه".