كتاب عربي 21

أسئلة عملية التغيير السياسي في المشرق: تركيا

1300x600
تركيا هي جارة العرب الرئيسة الأخرى، يجمعها بهم تاريخ طويل، يجعلها، من جهة الثقافة والمواريث، أقرب للعرب وأكثر شبهاً بهم من إيران. كما تونس ومصر، شهدت تركيا العثمانية بداية تشكل الدولة المركزية الحديثة ومؤسساتها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ وكما دول المشرق العربي، قاد تركيا الجمهورية بعد الحرب العالمية الأولى طبقة من الضباط والإداريين العثمانيين السابقين. ولكن تركيا تختلف عن جاراتها العربيات من دول المجال العثماني السابق في أنها لم تخضع للسيطرة الإمبريالية الغربية سوى لعامين أو ثلاثة أعوام فقط، التالية لتوقيع هدنة مدروس بين السلطنة العثمانية ودول الحلفاء، استطاع الأتراك خلالها، في حرب الاستقلال القصيرة وبالغة العنف، تطهير البلاد من الجيوش الأجنبية وإعلان الجمهورية. بمعنى أن الدولة الجمهورية تعتبر امتداداً مباشراً للإدارة العثمانية الحديثة، مؤسسات وطبقة حاكمة، وأن علاقات القوة داخل الجمهورية الوليدة تبلورت من خلال صراع وطني بحت بين المجتمع والدولة، بدون تدخل ملموس من الخارج. حققت تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة، وإن في مناخ قلق من التدافعات العلنية والخفية، تقدماً كبير في مسارها الديمقراطي، واقتربت مما يعرف بخط اللاعودة عن دولة الحرية والديمقراطية وحكم القانون. بخلاف إيران، التي شهدت ثورة دموية وانتصاراً للثورة لا يقل دموية، وقع التحول التركي بصورة سلمية إلى حد كبير، وتحت مظلة قانونية. فكيف نجحت الثورة الديمقراطية في تركيا، ولماذا؟
ولدت الجمهورية التركية في 1923 وقد انتهت حرب الاستقلال فعلياً، وبدأت مسيرة تركيا باعتبارها دولة قومية، مركزية، حديثة، تقوم على مفهوم المواطنة وسيادة الدولة على حدودها وشعبها. ولكن الجمهورية التركية حملت من لحظة الولادة الأولى عبئاً إيديولوجياً ثقيلاً. أراد أتاتورك ورفاقه من مؤسسي الجمهورية تحرير الدولة الجديدة من الميراث العثماني، ثقافة ونظاماً وتاريخاً، وحسم الجدل العثماني المتأخر كلية حول تبني النموذج الأوروبي الغربي للدولة. ولأن مثل هذه النقلة لم تكن ممكنة التحقق بدون سلطة الدولة وتوظيف وسائل القهر التي تملكها، فقد أظهرت الدولة للشعب، منذ بداية العشرينات، وجهها القمعي، المتسلط، أكثر مما أظهرت وجهها الرؤوف، الخدماتي والتنموي.  واجهت الدولة المتمردين على إرادتها في العشرينات والثلاثينات، بقوة وعنف غير مسبوقين؛ ووظفت السلطة التشريعية لإعادة بناء ثقافة الشعب ووعيه على الصورة التي أرادتها: أطاحت بمؤسستي السلطنة والخلافة، وألغت مشيخة الإسلام ووزارة الأوقاف، غيرت اللغة التي يقرأها ويتحدثها الأتراك، وأجبرت الناس على تبني أزياء تصطدم مع معتقداتهم وتقاليدهم. ولأن الدولة الجمهورية أقيمت على فرضية قومية حديثة، فقد اعتبر سكان البلاد، بقوة سلاح الدولة وتعليمها وإعلامها، بغض النظر عن خلفياتهم الاثنية والثقافية، جميعهم من الأتراك.             
مع نهاية الثلاثينات، أصبح على الطبقة الحاكمة الاعتراف بأن قبضة الدولة ووطأتها الثقيلة كسرت روح الشعب وعطلت طاقته، وأن الشعب لم يعد قادراً على تحقيق أهداف الإنتاج والنهوض. للخروج من الطريق المغلق، تداول قادة حزب الشعب الجمهوري، الحزب الحاكم والوحيد منذ ولادة الجمهورية، أفكاراً حول السماح بتعددية حزبية محدودة؛ ولكن اندلاع نيران الحرب الثانية أجل أية خطوة جادة بهذا الاتجاه. ولم يسمح بالتعددية الحزبية فعلاً إلا في 1945، عندما أصبحت تركيا طرفاً في الحرب مع الحلفاء وعضواً في الأمم المتحدة. ولكن الفترة القصيرة بين ولادة النظام التعددي والانتخابات البرلمانية لم تتح لأي حزب جديد فرصة الإداء الانتخابي الناجح. في الانتخابات التالية، 1950، حقق الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس نصراً حاسماً، هو الأول في سلسلة من ثلاثة انتصارات انتخابية، منحته حكم البلاد بصورة متواصلة حتى 1960. المدهش، أن حزب الشعب لم يستطع منذ خسارته انتخابات 1950 تحقيق الأغلبية البرلمانية مطلقاً، وإلى اليوم، وأنه لم يصل إلى سدة الحكم إلا ضمن ائتلاف حكومي أو بالقوة العسكرية الانقلابية.
حتى 1960، كان الجيش، قائد حرب الاستقلال ومؤسس الجمهورية وأداتها القمعية الرئيسة في عقدي العشرينات والثلاثينات، يعتبر ركناً صلباً من أركان تركيا الجديدة. ولكن الجيش اكتفى بالتعبير عن إرادته السياسية بوجود اثنين من أكبر قادة حرب الاستقلال، مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو، على رأس الجمهورية. في ربيع 1960، واجهت الجمهورية أكبر وأول تحد لعملية التحول الديمقراطي، عندما قررت حفنة من الضباط الكماليين التدخل المباشر في مسار البلاد، بعد أن تضاءل أمل الكماليين الراديكاليين في إيقاع هزيمة انتخابية بعدنان مندريس وسياساته المحافظة، التي استجابت لبعض من هموم الثقافة والهوية لعموم الشعب. أطاح الانقلاب العسكري الأول بحكم الحزب الديمقراطي، ألغى الدستور، وعلق مندريس على حبل المشنقة، بعد محاكمة صورية، خلت من أية قواعد للعدالة. وضع الانقلابيون دستوراً جديداً، كان الأكثر تفصيلاً وفاشية في تاريخ تركيا، ظنوا أنه سيغلق الباب أمام أية محاولة للمس بالقواعد الكمالية للجمهورية كما تصوروها. وبعد أن ضمنوا أن واحداً منهم سيحتل مقعد رئاسة الجمهورية، سمح ضباط الانقلاب بالتعددية الحزبية. ولكن إعادة بناء النظام الجمهوري على أساس انقلابي لم تفلح، ليس فقط لأن زملاء مندريس عادوا لتشكيل حزب جديد باسم مختلف، ولا لأن أغلبية الشعب التركي كانت قد نفضت يدها من حزب الشعب وتوجهاته الفاشية، ولكن أيضاً لأن تأسيس شرعية صلبة للنظام أثبت أنه هدف صعب المنال. 
عاشت تركيا، بعد الانقلاب الأول، عقدين طويلين من عدم الاستقرار، الحكومات الائتلافية الضعيفة، الأزمات الاقتصادية، الانقسامات السياسية، وتصاعد العنف الأهلي. وبالرغم من المظهر التعددي الانتخابي والتداول على السلطة، كان الجيش هو القوة السياسية الأكثر نفوذاً، يطيح بمن يريد من الحكومات، بمجرد مكالمة تليفونية قصيرة أحياناً لرئيس الحكومة، يقوم بها أحد ضباط هيئة الأركان. وعندما لم يجد الضغط غير المباشر أو المعلن، كان الشعب والحكومة يفاجئا بتحرك استعراضي لبعض وحدات الجيش، كما حدث في 1974 و1977. أصبح للجيش أذرع سياسية بالغة العمق والفعالية في كافة مؤسسات الدولة، وفي دوائر الحياة العامة، من جهاز النيابة ومؤسسة القضاء والسلك الدبلوماسي، إلى دوائر التعليم العالي والصحافة والإعلام. في خريف 1980، والبلاد تنحدر بصورة غير مسبوقة إلى هاوية من التحلل الاقتصادي والعنف السياسي، وعلى خلفية من تصاعد الحراك الإسلامي السياسي داخل تركيا وفي جواريها الإيراني والعربي، عاد الجيش مرة أخرى للتدخل السافر في مسار البلاد، متعهداً انقلاباً عسكرياً شاملاً وسيطرة كاملة على مقاليد الدولة والحكم. وإن كان العنف الذي اتسم به انقلاب 1960 طال بصورة أساسية الطبقة الحاكمة، فقد طال عنف انقلاب 1980 كافة قطاعات الشعب وفئاته، مودياً بحياة الآلاف، واعتقال عشرات الآلاف، ولجوء آلاف آخرين إلى المنافي. أخفق نظام ما بعد انقلاب 1960، ولعلاج الإخفاق أعلن الحكم العسكري حرباً انتقامية شعواء على الشعب.
مرة أخرى، كتب دستور جديد بإشراف من إدارة الانقلاب؛ وتحت ضغوط غربية، عادت التعددية السياسية والانتخابات البرلمانية. وبالرغم من فترة استقرار قصيرة، ساعدت حكمة رئيس الحكومة تورغوت أوزال في تأسيسها، عاد الجيش للتدخل في 1997، فيما سيعرف بالانقلاب ما بعد الحداثي، لإطاحة الحكومة الائتلافية التي شكلها نجم الدين إربكان وتنسو شيلر؛ وعادت تركيا إلى الانحدار السياسي والاقتصادي مرة أخرى. في 2002، أعطى قطاع كبير من الشعب صوته لحزب جديد، لم يكن قد مر على تأسيسه أكثر من عام، يقوده شبان عرفوا بخلفيتهم الإسلامية ونشأتهم في سلسلة الأحزاب التي أجبر الزعيم الإسلامي نجم الدين إربكان على تأسيسها، بعد حل الأحزاب التي قادها، الواحد تلو الآخر. وللمرة الأولى منذ حكومة أوزال، نجح حزب العدالة والتنمية في تحقيق أغلبية برلمانية كبيرة، وتشكيل حكومة قوية. أسس العدالة والتنمية إسلاميون أتراك، بخبرة سياسية طويلة، ولكن الحزب لم يكن إسلامياً، بل أقرب إلى الأحزاب الديمقراطية المحافظة التي قادها مندريس وأوزال في عقود سابقة. بمعنى أن إردوغان ورفاقه من قادة الحزب تقدموا للشعب التركي بتشكيل حزبي سياسي يوازن بين طموحاته الثقافية وهويته، من جهة، وميراث الجمهورية وتوازنات القوة السياسية في مؤسسة الدولة، من جهة أخرى. وخلال أشهر قليلة، بدا أن إردوغان عازم على قيادة عملية تحول شاملة وتدريجية في بنية الجمهورية وتوجهاتها، تستند إلى الشرعية البرلمانية. تبنى إردوغان سياسيات تستهدف توكيد المسار الديمقراطي، طالت كلاً من الأجهزة السياسية والقضائية. وقد ساعد على تأمين هذا التوجه، أن تركيا بدأت جولات من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بخصوص طلبها عضويته، وهو ما فرض الاستجابة لمطالب الاتحاد الخاصة بتأمين الحقوق وحيادية القضاء والقانون. كما تبنت حكومة إردوغان الأولى برنامج إنقاذ وتنمية اقتصادية شاملة، وأعلنت حرباً على الفساد المستشري في الحياة التركية العامة، واتبعت سياسة خارجية نشطة في الجوار العربي والإسلامي.
بيد أن نجاحات العدالة والتنمية الملموسة في سنوات حكمه الخمس الأولى لم تكن كافية لتأمين موقعه؛ بل إن هذه النجاحات أصبحت سبباً مباشراً للمحاولات المتكررة لإطاحة الحزب، التي تعهدتها النخبة الكمالية الحاكمة في مؤسسة القضاء، والجيش، ودوائر الإعلام. وليس حتى انتصاره الانتخابي الثاني في 2007 أن أصبحت حكومة العدالة والتنمية أكثر أمناً ومناعة، واستطاع الحزب أن يوصل أحد قادته لرئاسة الجمهورية.
ليس من الممكن وصف حجم التحول الذي شهدته تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة، وطال كافة مناحي الحياة، ومعظم أذرع الدولة، بأقل من ثورة. ولكن، وبالرغم من التغيير الكبير الذي أحدث في علاقة الجيش بالحكم وموقعه ودوره في الدولة، والتحول الملموس في بنية الشعب الاجتماعية وخارطة الثروة، والشعور العام بأن تركيا لن تعود مرة أخرى إلى سنوات الانقلاب والانحدار، لم تزل ثمة أميال لابد من قطعها قبل التيقن من وصول البلاد إلى محطة اللاعودة إلى الخلف. فعملية كتابة دستور جديد، يحرر البلاد كلية من دستور 1980 الانقلابي، تتوافق عليه القوى السياسية، لم تزل متعثرة، ولا يتوقع أن تصل لنتيجة سريعة. مهما كان الأمر، فما يجدر تذكره أن عملية الانتقال السلمي في تركيا، المستمرة حتى الآن، لم تكن نتيجة السنوات العشر الماضية وحسب، بل وحصيلة نضال نصف قرن من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، لم يخل في عدد من منعطفاته من الضحايا والدماء.