كتاب عربي 21

السخرية أداة لامتطاء الجماهير: الملأ المصري نموذجا

1300x600

أن تتوقف كثيرا عند استدعاء النائب العام المصري للّعبة الخيالية (أبلة فاهيتا) للتحقيق معها في دورها المفترض في المؤامرة على مصر، فثمة ما يستحق هذا العناء، لا لأن هذا المشهد قد بلغ الحد الأقصى المتجاوز للخيال في العبثية وإهانة الإنسان في كرامته الآدمية، وإنما لأنه مسبوق بما يفوقه مما يمتهن الإنسان حد امتطائه النهائي، وسيتبعه ما يفوق ذلك أيضا، وبالقدر الذي تهيمن فيه صورة عبث الملأ بعبيدهم، وتلذذهم بهذه السادية المتميزة، السادية الضاحكة، فإنهم في الوقت نفسه جادون جدا، واعون جدا، ويقصدون ما يفعلون.

لكن الأهم، وطالما أن هذه السخرية من الجماهير مقصودة، وأنها تتجدد في حوادث تبدو أغرب من بعضها؛ هو السؤال عن السرّ الذي يجعل الملأ بكل هذا الاجتراء على السخرية من جماهيرهم، وذلك السر الذي يجعل الجماهير بكل هذا القدر من الطاعة العمياء والتصديق الأبله والقابلية للعبث بهم واقتيادهم والتسلي بحيواتهم وطمس كراماتهم، وكأنهم محض متاع للملأ، أو دون ذلك، بل هم دون ذلك، وهم يسجدون لصورة الجنرال ويدعونه من دون الله، وهم دون ذلك، وهم يحشون رؤوسهم في أحذية العسكر، ويطلقون شفافهم وألسنتهم في تنظيفها بالقبلات واللعق.وهذا الشكل من العبودية الوثنية المباشرة للملأ قديم جدا وبدائي جدا، وكأن الدولة بمفهومها الحديث في مصر لم تزد هذا الشكل البدائي من العبودية لغير الله وخلع الكرامة الآدمية إلا شذوذا، وكما في سوريا وجنود الملأ يجلدون الناس ويجبرونهم على السجود للرئيس الذي إما يبقى أو تُحرق البلد.

تمكنت سلسلة الملأ في التاريخ الإنساني من تطوير أشكال متعددة، تلاحق الوعي الإنساني لضمان استمرار سيطرتها الطاغوتية، كان من أهمها في العصور الحديثة ابتداع ذلك الجهاز المركزي الباطش المسيطر، وسموه الدولة، بعد أن أزاحوا أي مرجعية مفارقة، وجعلوا من هذه الدولة المرجعية المطلقة والنهائية في ديباجات شعاراتية ساحرة وبراقة، ولكنهم وحينما فعلوا ذلك كانوا يشكلون هذه الدولة على صورتهم، وبما يخدم مصالحهم وأهواءهم، فتوهمت الجماهير أنها قد اهتدت وأخيرا إلى كرامتها الآدمية، وأنها تنتظم في عقد اجتماعي يجعل الناس سواسية، بينما كانت وهي تخضع لهذه الدولة وتستسلم لأدوات قهرها وسيطرتها نما تعبد من جديد الملأ الذين شكّلوها على صورتهم، وحرّموها على من ينكر أن تكون على صورتهم.

ولأن الغاية واحدة، وهي ضمان استمرار النموذج الطاغوتي وتعبيد الجماهير لأهواء الملأ، فإن كثيرا من الأدوات التي كان يستخدمها الملأ في طبعاتهم البدائية الأولى بقيت مستمرة، وإن بزينة أكثر خداعا تلاحق تطور الوعي البشري أيضا، وتناسب الشكل الجديد لمعبد الطاغوت (الدولة الحديثة). ومن أهم تلك الأدوات امتهان ومسخ الوعي البشري من بعد إعادة تشكيله. فعملية ملاحقة هذا الوعي مرهقة، وتفلّت هذا الوعي خطير، ولذا فلا بد من عزله وتكبيله، وإغراقه في الشهوات، وقصر غايته النهائية على التلذذ بالحياة الدنيا، وحصاره بالمخاوف حينما تمس مغامرات الملأ الكبرى حياته كما حصل في أمريكا في الفترة المكاريثية، وكما أن كثيرا مما تبثه فوكس نيوز الأمريكية لا يقل سخفا عن مأساة أبلة فهيتا في مصر، وكما أن الإلحاح في الكذب كان الأداة النازية الناجعة في صب الجماهير في قوالب الطاغوت هتلر، وهكذا..

في العالم الذي انقطع عهده بالوحي، أو بقيت صلته به شديدة التشوش بذكريات ضعيفة باهتة غامضة، كانت مهمة الطواغيت في زِيّهم الجديد سهلة، إذ توجهوا إلى استهداف الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، كشرط ضروري لتمكين السخرية من الجماهير، ومن ثم تحطيمهم وعجن وعيهم من جديد ورميهم حطبا في مغامرات الملأ الكبرى، بينما لدى الطواغيت في بلاد المسلمين كانت ثمة عقبة أولى قبل الفطرة، وهي التقوى التي تجعل الإنسان في الذروة من الكرامة الآدمية، فكان لا بد من استهدافها وإشاعة الفسق بين الناس وإضلالهم به، كمقدمة للاستخفاف بالناس، {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين}. فالاستهداف في الأساس لأجل استعباد الناس، واستعباد الناس لا يكون إلا بعد تشويه الفطرة أو إزاحة التقوى من المجتمع، وهذا الاستهداف من كل وجه إذن للدين.

وإذا كانت السخرية من الجماهير، قد حافظت على أهميتها وفعاليتها وبقيت حاضرة للاستدعاء حين الحاجة، وإن تطورت وتزينت بما يلاحق الوعي البشري، فإنها حافظت على الكثير من سماتها البدائية في بلاد العرب والمسلمين. ذلك أن الشكل الطاغوتي الجديد الذي ابتدعه الأوروبيون ثم فرضوه علينا؛ لم يكن في بلادنا كما هو في بلادهم، إذ استمر الطابع القديم للطاغوتية في الشكل الجديد، حينما عرّف الملأ الدولة بذواتهم، وجعلوها وهم سواء، وما انفصلوا عنها بأي مسافة وإن قلت، ولذلك كانت البدائية بادية السمات في أدوات بطشهم وقهرهم وتحطيمهم للناس والسخرية منهم وتعبيدهم لهم.

وكل دولة تقوم على عصبية العرق - وهي عصبية في حد ذاتها تبدو مَسْخَرة حينما يتحول العرب إلى أعراق متعددة في بلاد منقسمة - فإنها تحتاج سردية كبرى تبرر بها وجودها، وتظلل بها سياساتها، وتصيغ بها هوية جماهيرها، ومن هنا اختلق الملأ في الدولة المصرية سرديات خرافية معظّمة من طبيعة الإنسان المصري، وكفاءة الدولة المصرية، وقدرات جيشها وأجهزتها الأمنية، في الوقت الذي تسخر فيه من هذا الإنسان، وهي العملية التي تطوي على فصام عنيف أثمر في المزيد من تشويه وعي الإنسان المصري الذي ما وجد ملجأ للتنفيس عن شيء من هذا الشقاء المدمر إلا أن يسخر من نفسه، فساهمت سخريته من نفسه في المزيد من تحطيمه لنفسه وتلويث وعيه، فكانت "خفة الظل" هذه مستوى في عملية مركبة تجعل المصري متمركرا حول ذاته بسخرية مرتكسًا في شقوته العابثة.

لا تنتهي مهمة السخرية هنا، إذ أن لها مهمة إضافية بطابع مختلف في ساحة أخرى من ساحات السيطرة، فهي تستهدف الجماهير عموما بالاستخفاف لامتطائهم، بينما هي وإذ تعجز عن الاستخفاف بالمصلحين والمقاومين والثوار، فإنها تسخر منهم لتحقيرهم وإسقاطهم من وجدان الجماهير، وتحول دون قدرتهم على استثارة وعي الجماهير حينما تحاصر ذلك الوعي بالسخرية وتحجزه عن دعوات المصلحين والثوار، ثم تكبل حجة المصلحين والثوار بالسخرية المتسلحة بالكذب والباطل والضلال حيث لا مجال لاشتغال العقل، ولا مساحة لقوة الحجة، ولذلك كانت محاولة الأنبياء مطبوعة دائما باستهزاء الملأ وأتباعهم بهم، وكانت سخرية المؤمنين من الملأ المستكبر مرجأة مخبوءة في الغيب، وكثيرا ما كان حصار الوعي بالسخرية ينجح، فيأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد.

البطة الجاسوسة، واستدعاء أبلة فاهيتا للتحقيق، واعتقال إخواني اعتاد على تفجير نفسه، والعاصفة الجوية التي أرسلتها الدول العظمى للتآمر على مصر بالريح والبرد والمطر، وتسبب الإخوان في سقوط الأندلس، وامتلاكهم كرة أرضية مدفونة أسفل منصة رابعة العدوية، وقناة الفراعين.. يبدو ذلك كله هزليا، لكنه مقصود جدا، وناجع جدا، ومهم جدا أيضا لاستثارة غرائز الخوف في الجماهير وحشدهم خلف الملأ ضد عدو خارجي مصطنع، عادة هو حماس، أو لاستثارتهم، بعد تقسيم الأهل إلى شيع، ضد المصلحين والثوار الذين يقاتلون في سبيل تحرير العباد من عبادة العباد، وفي سبيل رفع البشر من حظيرة الأنعام إلى مستوى الكرامة الآدمية.