كتاب عربي 21

تجاذبات الإسلاميين في تركيا .. غولن وأردوغان (1)

1300x600
 تجاذبات الإسلاميين داخل الفضاء التركي ليست جديدة، فقد برزت التوترات في العلاقة بين انصار اردوغان وأتباع غولِن بمجرد إزاحة عدوهما المشترك المتمثل بـ "العلمانيين"، وأصبح التحالف مع حركة غولن "الخدمة" عبئا على حزب أردوغان "العدالة والتنمية"وبدت الحاجة إليها مكلفة وفائدتها محدودة، وجاءت لحظة الانهيار حين حاول أنصار حركة غولِن إسقاط رئيس وكالة المخابرات التركية هاكان فيدان، وهو أحد المقربين المخلصين من أردوغان.

 الأمر الذي مثّل خطرا على أردوغان شخصيا، إلا أن رئيس الوزراء أوقف هذه الخطوة من خلال تمرير تشريع جديد، وفهم التحذير جيدا وقام بالردّ عليه بمحاولة غلق شبكة المدارس الخاصة الإعدادية القوية التابعة لـحركة غولن، وحمله على إقصاء العديد من أنصار حركة غولِن من مناصبهم داخل جهازي الشرطة والقضاء.

لقد تمخض العام الماضي عن جملة من المصاعب والتحديات الخطيرة هي الأصعب طوال حقبة حكم أردوغان، فالمظاهرات التي انطلقت في شهر أيار/مايو على خلفية خطط تطوير "حديقة غيزي" في اسطنبول كشفت عن تنامي نزعة ليبرالية تتحدى الحكم السلطوي المتزايد لرئيس الوزراء، وعلى الرغم من ضعف القوسم المشتركة بين معتصمي "حديقة غيزي" و"حركة غولن"، إلا أن الحركتين أصبحتا واقعيا وفعلياً، في جبهة موحدة أردوغان.

انقلاب العلاقة بين أبرز شخصيتين مؤثرتين اليوم في المشهد الإسلامي التركي، طيب أردوغان، زعيم الإسلام السياسي في صيغته الجديدة، وفتح الله غولن، زعيم ما يعرف بـ"الإسلام الاجتماعي" في تركيا، ولّد فرضيات متعددة لتفسير ما حدث، بين اتجاهات متضاربة تنطلق من "نظرية المؤامرة" (أردوغان يتهم حركة غولن بأنّهم أداة بيد الإسرائيليين والغرب، وهم يتهمونه بأنّه ممر للنفوذ الإيراني من جهة، وبالانقلاب على الديمقراطية والحكم السلطوي من جهة أخرى)، واتجاهات تحيل ذلك إلى "صراع النفوذ" بين القوتين الكبيرتين، واتجاهات ثالثة  تحيله إلى تناقض الأولويات والأجندات والتصورات، الذي ظهر بينهما مؤخراً.

التحالف الهش بين الطرفين تمكن من الصمود في وجه التحديات والاختلافات بسبب النجاح الكبير الذي تحقق على الصعيدين الداخلي والخارجي بقيادة حزب "العدالة والتنمية" بين عامي 2002 و2010؛ والذي ضم ائتلافاً سياسياً واسعاً من أجل الفوز بالانتخابات في ثلاث مرات متعاقبة وبأغلبية كانت تتزايد مع الزمن، وقد ضم ائتلافه إسلاميين وقوميين وناخبين من يمين الوسط وليبراليين مؤيدين لقطاع الأعمال؛ وبات أردوغان يمتلك تأثيرا واسعا على القطاعين التنفيذي والتشريعي للحكومة، فضلاً عن الكثير من وسائل الإعلام ومجتمع رجال الأعمال، وقد تسبب حكمه في بادئ الأمر بقلق خصومه من الليبراليين العلمانيين، إلا أنه في الوقت الراهن بات يزعج أبناء "حركة غولن"، ومع ذلك فإنّ التحديات الخارجية التي برزت نتيجة التحولات الكبيرة التي حصلت في المنطقة ومحيط تركيا الإقليمي دفعتها إلى تبني سياسات وصلت إلى حد الصدام مع العديد من دول الجوار الفاعلة، وعلى الصعيد الداخلي ظهرت جملة من القضايا الإشكالية وفي مقدمتها المسألة الكردية، وبهذا حملت المتغيرات بعض حلفاء حزب العدالة والتنمية على تبني قراءة مغايرة، وكان من أبرز هؤلاء حركة فتح الله غولن.

ظاهرة فتح الله "غولن" بدأت في أحد قرى الأناضول الصغيرة، حيث ولد عام 1941 (وبحسب روايات أخرى عام 1938)، وكان والده رامز غولن إماما للقرية ، وكان شغوفا بالعلم منذ صغره، وقبل أن يتم الرابعة عشر من عمره ألقى أول خطبة جُمعة، وبدأ بدراسة "كليات رسائل النور" للشيخ الصوفي النقشبندي المشرب سعيد النورسي الملقب ببديع الزمان (1877-1960)، وهو من أبرز دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي التركي، حيث تعتبر كتاباته ورسائله مرجعية رئيسية وركيزة  أساسية لمشروع غولن الفكري والعلمي في مواجهة تحديات الحداثة،  كما تأثر غولن بكبار أئمة التصوف الإسلامي  أمثال محي الدين ابن عربي، ومولانا جلال الدين الرومي.

خلال السنوات اللاحقة من عقد ستينيات القرن الماضي تبع غولن جمع غفير من الطبقة المتوسطة الطموحة في الأناضول، فهذا "الكال?ينيّ المسلم"، كما يطلق عليه معهد الأبحاث الأوروبي، يدعو إلى ربط العبادة بكسب المال، إلا أن الغرب يتحفظ على اعتباره "المصلح المسلم" المنتظر بسبب هجومه الشديد على  منكريي وجود الله، وأنصار نظرية التطور لداروين، كما أنه لم يؤسس لنظرية لاهوتية خاصة، ولا يتوافر على رؤية ثورية، وفهمه للإسلام لا يتعدى الاتجاه المحافظ السائد.

كرّس غولن حياته كلية لحركة "الخدمة" مع بداية سبعينيات القرن الماضي، واكتسب محبة واحترام الشعب، وأصبح إبان عقد الثمانينيات شخصية شهيرة، وهو يعيش في منفى اختياري في ولاية بنسلفانيا الأميركية منذ عام 1999، حيث يترأس شبكة ضخمة غير رسمية من المدارس والمراكز البحثية والشركات ووسائل الإعلام في خمس قارات، وقد أنشأ أنصاره وأتباعه ما يقرب من مئة مدرسة مستقلة في الولايات المتحدة وحدها، كما اكتسبت الحركة زخماً قوياً في أوروبا منذ تأسست أولى مدارس غولِن في شتوتغارت بألمانيا في عام 1995، وفي تركيا، خلق أتباع حركة غولِن ما يُعَدّ فعلياً دولة داخل الدولة التركية، ورسخوا وجود الحركة بقوة في جهازي الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطي للدولة.

على الرغم من أنّ غولن ابتعد عن الحركة النورسية خلال العقود الماضية، واستقّل بنشاطه وعمله ومؤسساته المختلفة والمتعددة؛ إلاّ أنّه ما يزال يدين في جوهر رؤيته الإصلاحية إلى موروث النورسي وتصوّراته العامة، وربما تتمثّل الإضافة النوعية لغولن على بديع الزمان في جوانب متعددة، تتمثل أولاً: بأنّه ترجم كثيراً من تلك الأفكار والمبادئ، التي دعا إليها النورسي، لكنّ تجربته المريرة بين النفي والسجن لم تساعده على إنفاذها، فقام غولن بهذه المهمة، وثانياً: في الإنتاج الفكري الخاص بغولن نفسه، ومنهجه في قراءة الدين وتأويله وفي شرح السيرة النبوية، وثالثاً: فيما امتلكه غولن من قدرة شخصية على التأثير في المجتمع والناس والمواطنين بصورة واضحة.

لا جدال بأن حركة غولن إزدهرت ونمت داخليا في ظلِّ حكومة أردوغان الممتدة بين 2002 ــ 2013، فهي التي شرّعت الأبواب أمامها لممارسة أعمالها بحرية وسهلت لها الدخول في كافة قطاعات وأجهزة الدولة، وخصوصا تغلغلها في  وزارات التربية والتعليم، والداخلية ومديريات الأمن والاستخبارات، ووزاراتي الخارجية والعدل، بل ذهب أردوغان إلى حدّ شرعنة الحركة  ودعمها والترويج لأنشطتها دوليا، إلا أن شقة الخلاف بدأت تتسع على خلفية جملة من الاجتهادات المتعلقة بقراءة المتغيرات وطرائق تدبيرها وتسوتها محليا وعالميا.