كتاب عربي 21

نبوة المثقف في زمن الثورات العربية!

1300x600
لماذا نزل القرآن منجمًا، ولم ينزل مرة واحدة؟ من الممكن أن نقدم إجابات متعددة بلا تعارض، لكن يهمنا منها إجابة واحدة، هي موضوعة هذه المقالة؛ إنها واقعية الوحي، فإذا كان القرآن "تبيانًا لكل شيء"، وخالدًا بطاقته الهائلة على معالجة الأوضاع الإنسانية، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، وقادرًا على إرشاد الإنسان، ومواكبة حركات التاريخ الكبرى.

فإن شيئًا من هذه الطاقة المذهلة مستمر من طبيعة تنزل الوحي؛ الذي تنزل في ثورة تغيير كبرى مستمرة بلا انقطاع، لا لتغيير أهل مكة، أو العرب، وإنما لتغيير هذا العالم، وإرشاد هذه البشرية في مسيرتها إلى نهايتها، وذلك بصفته الرسالة الخاتمة، ومن هنا فإن ثمة أهمية خاصة لعملية البناء الأولى للرسالة الخاتمة والكيفية التي واكب بها الوحي ذلك.

بالرغم من أن الإسلام جاء برؤية مختلفة للعالم، تكثفت في الوحي المكي كمبرر ومعنى لهذه الرسالة، وأساس تنبني عليه الدعوة كلها، ثم كررت تأكيد نفسها بصيغ مختلفة مع استمرار الدعوة، فإنه لم يقدم إرشاده لحركة الدعاة والثوار والمناضلين مرة واحدة ثم طالبهم بالاهتداء به هكذا، بل قدم لهم إرشادًا حيويًا متحركًا مع حركتهم، يتحركون في ظله، ثم يسدد لهم حركتهم، ويقدم لهم التوجيه والنقد والتصحيح من واقع التجربة والحركة، بمعنى لم يكن الوحي كتلة صماء تهبط على الواقع بشكل مسبق، وإنما كانت تواكب هذا الواقع.
 فالله جل وعلا، القادر على كل شيء، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وكان من لطفه بالطبيعة الإنسانية التي خلقها وهو أدرى بها، أن ترفّق بها، وواكب بالوحي حركتها، ولم يقدم لهذه الحركة حلولاً مسبقة متعالية على واقعها، ولا نظريات صماء على شكل حلول سحرية، بل كان يتنزل الوحي بالحلول والنقد والتوجيه على الواقع الذي يستجيب له تمامًا، لأن الحلول جاءت لأجل مشكلة حقيقية وملحة، وهذا كله على ضوء الرؤية الكلية للعالم التي جاء بها الوحي أيضًا بصورة مسبقة، ولكنه أكدها بصيغ متعددة تجلي العديد من حكمها ومعانيها على ضوء الحركة والواقع أيضًا.

إذا كان المثقفون، كما يقول علي شريعتي، نظراء الرسل، وأن مسؤوليتهم القيام بدور النبوة في مجتمعاتهم حين لا يكون نبي، ونقل الرسالة للجماهير، فهذا يعني أن يكون دور المثقف كدور النبي بين الناس، بيد أن كثيرًا من مثقفي هذا الزمن الذين يعجبهم تشبيه أنفسهم بالأنبياء، لا يقفون في الحقيقة في الموقع الذي كان يقف فيه الأنبياء.

على الأقل هؤلاء الأنبياء الذين تولوا مهمة البلاغ بعبادة الله واجتناب الطاغوت، فإنهم تولوا المهمة بأنفسهم، وقفوا أمام الطاغوت مباشرة، وخاضوا في سبيل ذلك جهادهم، ودفعوا ثمنه القتل والتحريق والنفي والمطاردة، وهم بين حوارييهم وأصحابهم، بمعنى لم يكن النبي منعزلاً عن الواقع، ولا متعاليًا عليه، ولا غارقًا في تأملاته، ولا ممطرًا "فكره" على الناس من عليائه. 


ثمة أنماط مختلفة من سلبية المثقف، الذي يدعي تقديمه الحلول للواقع؛ وهو منعزل عنه بشكل ما، من ذلك مثلاً توهمه أنه لا يجدر به أن تستنزفه تفاصيل الصراع والمواجهة اليومية، وأن دوره "المقدس" في التفرغ للتأمل، وبعد ذلك في توجيه وإرشاد أهل الميدان، ويترتب على هذا التصور فصلاً حديًا بين المقاتل أو العامل في الميدان وبين المثقف. سيتوهم في هذه الحالة المثقفُ، أن المقاتلَ لا يمكنه أن يكون مفكرًا أو سياسيًا، وهو يحتاج لهذا المطر الفكري الهاطل من علياء المثقف، الذي سيقوّم الميدان ويعطي له الحلول دون أن يختبره أو يعرفه، هل كان هكذا الأنبياء؟ بالتأكيد لا.

بالتأكيد لا يمكن للمثف أن يقوم بدور النبوة تمامًا، وإن تكليفه دون تكليف النبي الذي لا يجوز له الانسحاب من الاشتباك مع الواقع، ولكن الإشكال في هذا التصور الذي لا يرى المثقف إلا مكانًا واحدًا وهو الانعزال عن الواقع كي يقدم الحلول للواقع! وهو الأمر الذي قد يعني أن يجعل المثقف نفسه مقابلاً للواقع تمامًا، إذ أنه لم يعد جزءًا منه، فتصبح أطروحة المثقف مقابلة للواقع تمامًا، منفصلة عنه، وبالتالي لا سبيل إلا أن تفرض هذه الأطروحة نفسها على الواقع، أن تخضع لها الواقع كلية، لا أن تختبر نفسها بالواقع.

يُذكر هذا ببعض النقاشات التي دارت إيان صعود حركة التحرر العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي أوج الثورة الفلسطينية، حينما كانت تستدعى التجارب الثورية الماركسية لفرضها على واقعنا العربي، بلا سعي لتبييء هذه التجارب، وإعادة صياغتها لتناسب مجتمعاتنا، فلا ينقص المقاتل، أو الزعيم السياسي، إلا الانسلاخ من طبقته الاجتماعية والانحياز للبروليتاريا، أو لا حل لواقعنا إلا الحزب الثوري البروليتاري والاشتراكية!.

 وكان يجري الاستشهاد بلينين وماو وهوتشيمنه وكأنهم كانوا يخططون لبلادنا ومجتمعاتنا لا لبلاد أخرى ومجتمعات أخرى، بل وكان يجري الاستشهاد بهم مجتمعين بلا أي تنقيح رغم ما بين تجاربهم وبلادهم من اختلافات، وسيخيل إليك أن مقولات هذا الزعيم الماركسي أو ذاك حق مطلق لا يأتيه الباطل وأنه لا سبيل لنا إلا الأخذ الحرفي به بلا اختبار! 

سنلاحظ في فلسطين اليوم، مثلاً؛ أن مؤسسات المجتمع المدني الممولة غربيًا، تتطلب صنفًا محددًا من المثقفين الذي يملكون القدرة على الاشتغال بقضايا منفصلة تمامًا عن واقعنا وعن مشروعنا التحرري، بل وتعمل بالضرورة على تشويه وعينا بذواتنا، مثل قضايا حقوق المثليين، والإجهاض، والصحة الجنسية.. الخ، وهي كلها قضايا وهمية، أو مضللة، والاشتغال بها عمومًا لا يفيد قضيتنا بشيء إن لم يكن ضد هذه القضية.

لا يختلف الأمر عن طريقة بعض المثقفين في معالجة ما يجري اليوم في مصر وسوريا، كأن يعتقد أن المشكلة تكمن في عدم إيمان الإخوان المسلمين الكافي بالديمقراطية، أو افتقارهم للمصداقية في رفعهم لشعار الحرية، أو لعدم تطويرهم فكرًا يمكنه استيعاب ضرورات العصر وفنونه وعلومه ومعارفه الإنسانية، وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام كله لا يقيم وزنًا للحالة التي فيها الإخوان المسلمون اليوم في مصر، فهل لو بات الإخوان ليلتهم مؤمنين بالديمقراطية، أو بأهمية السينما والمسرح، يتغير حال مصر في اليوم التالي؟ ولذلك لن نتعجب حينما نجد المثقف الذي جعل نفسه مقابلاً للواقع يختزل المشكلة كلها في الإخوان، عاجزًا عن رؤيتها في تعقيدها وفواعلها وسياقاتها.

من ذلك استدعاء تجربة أخرى من مكان آخر، لها سياقها التاريخي، وعواملها الخاصة، لفرضها على واقع آخر دون بذل الجهد في مقاربة الواقعين، لفحص مستوى الإمكان في هذا الاستدعاء، بما يذكرنا بالممارسة الثقافية لماركسيي مقاهي الستينات والسبعينات، فبدلاً من لينين أو ماوتسي تونغ، يمكننا اليوم أن نضع اسم أردوغان أو الغنوشي، إلا أن الإشكال ليس فقط في هذا الاستدعاء الراهن في اختزاله لتجربة لها سياقاتها وظروفها وتقديمها في اسم شخص وكأن التلفظ به حل سحري، ولكن أيضًا في عدم مراعاته للحظة.

 فقبل أن نلقن الإخوان في مصر قانون الإيمان بأردوغان ينبغي رفع القهر عنهم! وأن نقدم مساهمة بخصوص ما يجري من طغيان مهما كان رأينا في أفضل السبل لمواجهته، والنقد الذي يمكننا تقديمه ينبغي أن يكون متصلاً بهذا الواقع، أما وإن كان منفصلاً عنه، ومهما كانت بلاغتنا اللفظية في هجاء الطغيان، فإنها ستكون مفتقرة بالفعل للأخلاق وأقرب لخذلان المظلوم.

فكيف الحال مع المثقف العلماني الذي يعتبر أن ما يجري في مصر وسوريا والجزائر والعراق، هو استمرار للنهضة الحداثية العربية التي بدأت في بدايات القرن الماضي، وتحالف بين الجيوش والقوى الشعبية في وجه جماعات الظلام الديني! ولأن الأمر كذلك، فإن استباحة دماء الآلاف من الأبرياء في الشوارع يأتي في سياق هذه المواجهة، وكذلك حكم الفرد الواحد، والحكم من غرف الموت السريري، وحكم العائلة والطائفة.

وعليه وبما أن الأمر على هذا الحال من بواكير ازدهار نهضة حداثية عربية، فلا بد من منفيستو للنهضة العربية يشمل حقوق المرأة والأقليات والعلمانية حلاً والتأكيد على الصداقة بين التنويري العربي والغربي، فلا يموت في الشوارع والسجون إلا البعوض الذي يكدر أنوار العلمانية العربية!