كتاب عربي 21

جمهورية الخوف

1300x600
حينما خرجنا بحلم فراشات التحرير ونادتنا نداهة التحرر وساروا وسرنا بروائح الياسمين العابرة لميادين الثورة المترامية على امتداد البلاد طولا وعرضا.

هناك في ليالي الدفء في يناير تبادلنا الأمان وتغطينا بالحلم الممكن وافترشنا الطرقات، ولم نعبأ كثيرا بقسوة الرصيف، وتذمر يأتيك بصافرة إنذار لمعدة جائعة، وظهر تألم بلفحة، وحركة منطقية تطلب راحة بدنية، وخيام ضاقت ولم تتسع للجميع.

ورغم اختلافنا، لم نلحظ الفرق ولم نتعرف على شبح الخوف، لأننا طاردناه منذ فجر خروجنا للميادين، فخرج مدبرا ولم  يعد طويلا، ولم يعرف طريقنا لفترات، ولم يعيق خطواتنا الواثقة المصممة على عبوره وتحطيم جدارنه الذاتي والخارجي.

خرج الجميع من جدرانهم الانعزالية، وحطموا شبح الخوف من الأنا بداية و من الآخر، وذاب البعض في الكل، وتلاشت أفكارنا وهواجسنا التشكيكية، ولم يعرف الكل إلا هجرة داخلية نحو التلاقي في محاولة حقيقية للوصول لأرض الذات المصرية، هجرة داخلية للبحث عن الوطن الغائب والبعيد، والذي تفننوا في بناء أسواره الصخرية الذاتية، بطول وعمق سنين الغربة والاغتراب الداخلي، التي حفرت بقسوتها علامات الحزن والخوف والاغتراب، الذي عشناه لعقود، وفجأة تحطمت القيود وكسرنا حاجز الخوف والصمت والغربة.

 شعرنا حينها للحظة بألفة وسكينة، ونفس خرج برائحة عبق طمي النيل بعد مرور روحك بفدان أرض مزروعة في الدلتا.

خلفية الصورة خرطوش وضباب دخان.. لبعض الوقت ترقب.. وعيون تبرق بأمل وثقة، و أرواح منطلقة قوية تتحمس لتملأ الأجواء بأغنية النصر، وبكاء عودة الابن الضال بعد غياب، لتمتزج الأجساد والأرواح، وتنتج قوة قد تنقل الجبال.

ورغم كل الألم، كان حاضرا شعور عجيب بالارتياح والقرب من الآخر، وصرخنا جميعا دون صوت.. لا خوف بعد اليوم، لن نخاف من أنفسنا، ولن تهزمنا غربتنا الداخلية، سنكسر حاجز قيودنا الذاتية، لنثق من جديد في ذواتنا وقدرتنا على خوض التجارب، ولن نخاف من الآخر الذي عشنا معه عمرنا، ولم نعرف عنه ولم نكتشف قربه وحميميته، لن يخاف كلانا الآخر بعد اليوم، لا نحتاج لوسطاء من كبار القوم أو أوصياء، لن يفصل بيننا حدود، ولن تتملكنا الهواجس، ولن يخون كلانا الآخر، لا غربة في الوطن بعد اليوم، ولا غربة مواطن.

 سيجمعنا حلم ليوم نعيشه معا، وغدا نحلم ببنائه معا، نغني أغنية النصر معا، نصلي نهلل ونكبر ونرنم أنشودة واحدة بتراتيل ملحمة وطن، لا يقهر فيه أحد، ولا مكان للخوف. وشبحه الذي طاردناه لن يعود بعد اليوم.

 سنرتدي قلادة جديدة بتعويذة مصالحة ذاتية، بلا جدران، وسنكتشف أرضنا الطيبة الطينية، وسنزينها ونحرثها، ونعدها لغرس بذرة لنبتة الحرية، التي سنرويها جميعا من مياه نيلنا المقدس، ونمنع عنها رياح الغضب والأنانية التي تريد أن تقتلعها.

سنسهر معا لتنمو بذرة الحرية بلا أشواك الخوف التي تتربص لخنق تلك البذرة، وسنقلع أشواك الكذب 
وسنستدعى روح جدنا الفلاح الفصيح، ليرشدنا في طريقنا بلا وسيط، وينكشف الجميع، ويتصارح ويشمّر كل منا عن سواعده في خدمة وطن التحرر، ومراحل نزع أشواك الخوف من أرضه الطيبة.

ننزع كل بذرة خبيثة لهواجس مريضة، أدمت قلوبنا وأرواحنا، ليخرج أجمل ما فينا، ونطرد من الزم والجغرافيا خبيث بذور الخوف المريضة، ونغسل ذواتنا من أقبح ما تركت أنظمة الاستبداد من صدى وجروح، وشبح وحوش الخوف التي تعصف بأمل بقائنا وسلامة حياتنا.

ولكني بعد فترة، قابلت صديق الميدان، وجدتني أتشكك، وتراودني هواجس الخوف القديمة، وإذ به يقذفني بحجر يحمله طائر الخوف الأسود، وتبادلنا الخوف من جديد، وعصفت بأفكارنا نوبات الغضب والكراهية والتخوين.

فتحسرت على جفاف بذور نبتة التحرير، وأيام كسرنا فيها دوائر الخوف اللئيم، وطردنا شبحه الذي راح يتوطن في قلوبنا وأجسادنا من جديد.

رحم الله أيام التحرير، وسامح من بذر بذور الخوف في جمهوريتنا من جديد.