مقالات مختارة

قــــم والسيســتاني

1300x600
كتب سرمد الطائي: شهدت آخر جمعتين أكثر مواقف المرجع السيستاني وضوحا، لا بشأن أزمة تشكيل الحكومة، بل حول تدهور وضع البلاد، حيث أعرب عن قناعته بأن أي حل أو تهدئة، يتطلب تصميم رسالة تصحيح والتزام كبير بالإصلاح السياسي، وأن ذلك يحتاج إلى تغيير في فريق العمل. قال إن على الساسة أن لا يتشبثوا بالكراسي. وقال إن على الساسة أن لا يقفوا عائقا أمام التوافق الوطني. الرسالة الواضحة منذ شهور، هي تغيير فريق نوري المالكي الذي فشل في استخدام القوة، وفشل في استخدام السياسة، في آن واحد.

رؤية المرجعية لم تحاول ان تفرض على المجتمع"فتوى"تخص المؤمنين، بل جاءت في صميم ما يدعو إليه ما تبقى من الحكماء في هذه البلاد، وهم يطلبون إسكات الأصوات السفيهة التي تشعل نار الحرب، على طرفي الصراع، ولتفسح المجال أمام الحديث بشكل مسؤول عن مجتمع أمامه فرصة لإدارة خلافاته بأقل الحلول كلفة، وهو معنى السياسة الغائبة.

مواقف مرجعية النجف لم تعجب كثيرين من أنصار فريق السلطة، ووصل الأمر إلى رجال دين"بارزين"راحوا يتحدثون بنحو لا مسؤول وسطحي، عن قواعد اللعبة العراقية، وينالون من النجف. إلا أن الرد جاء هذه المرة من مدينة قم، التي تخوض هي الأخرى مواجهة مكتومة، بين نهج سياسي مثير للجدل في الداخل والخارج، وقلق يعرب عنه مراجع دينيون كبار، ظلوا يدعمون مسار الإصلاح المقموع داخل ايران.

ثلاثة من كبار المراجع المعروفين في مدينة قم، بدفاعهم عن تيار الإصلاح الإيراني، ومواقفهم المؤيدة لهذا المسار منذ عهد الرئيس السابق محمد خاتمي، أعلنوا بصراحة وقوفهم مع مطلب الإصلاح السياسي في العراق. فدعموا موقف النجف بوضوح، عبر اتصالات هاتفية مع السيستاني، أو رسائل وبيانات نشروها، وأثارت جدلا واسعا لا داخل قم والنجف فحسب، بل في واشنطن نفسها.

ليس الأمر اصطفافا ضد المالكي، ولا ضد قائمته الانتخابية أو جمهوره، بل هي لحظة بالغة الحراجة، تتطلب موقفا كبيرا يعلنه ما تبقى من حكماء هذه البلدان. والمرجعيات المعروفة باعتدالها، على رأس التيار المتعقل. الحكماء يؤمنون بان الديمقراطية خيار لا بديل عنه، ويؤمنون في الوقت نفسه، بأن على الديمقراطية ان تصحح أي أخطاء ممكنة الوقوع في المسار الوطني. وهم يدركون ان الدساتير في النظم البرلمانية، تكفل أساليب للتعامل مع أي خرق كبير يهدد مصير الشعوب، وأن هذه هي قاعدة اللعبة في العراق الآن، الذي يقف عند اخطر منعطفات التاريخ.

المراجع الثلاثة"الإصلاحيون"في قم، تحركوا بوضوح، حين شعروا بدرجة غير مسبوقة من الخطر، في الوضع الإقليمي، وفي السياسات الخاطئة لقيادات سياسية شيعية. وشعروا للحظة بأن مرجعية النجف قد تكون عرضة لتهديدات متنوعة ممن يمتلك السلطة والمال في بغداد، وأيضا من عصابات الموت الداعشية، التي لا تحب ان ترى مشروع إصلاح للنظام السياسي، تدعمه بقوة واحدة من اعلى السلطات الروحية في المنطقة والعالم.

نعم، علينا أن ننتبه إلى تنوع مذاهب الذين يستاؤون من مواقف السيستاني، فبعض الشيعة النافذين في إيران والعراق، خائفون من الإصلاح، ومن النجف التي تتبناه بشجاعة هذه اللحظة. وبعض السنّة النافذين في العراق وخارجه، ومعهم داعش وأخواتها، خائفون من الإصلاح الذي تدعمه النجف بقوة. الإصلاح هذا يهدد بوضوح مشاريع شيعية وسنية مخبولة تخيل أصحابها أنها"ولاية باقية وتتمدد".

بالمقابل فإن موقف السيستاني اليوم يحرض نوايا تعقل وتوازن كثيرة، سنية وشيعية، وها هو يشجع قم على أن تعلن موقفاً، وبعدها سنرى استجابات أوسع حتى على الطرف المذهبي الآخر.

وهنا يمكننا أن ننظر بوضوح أكبر إلى خط اعتدال شجاع وواضح، في النجف ومدينة قم نفسها، قابل لأن"يبقى ويتمدد". وتزداد أهمية هذا المسار المتعقل، لأن كل شياطين الحماقة تطلّ برأسها في الشرق الأوسط، بينما تتمترس الحكمة خلف"خط الدفاع الأخير"قبل أن يفوت الأوان نهائياً.

(المدى العراقية)