بورتريه

أقرب مكان إلى السماء

رسم تاريخي للمسجد الأقصى المبارك - أرشيفية
يقال إنه أقرب مكان إلى السماء..

لا يوجد موضع حوله إلا وفيه عبق لنبي أو ولي أو لرجل صالح..

هو المكان الذي غزته الجيوش نحو أربعين مرة في التاريخ. 

مكان يفيض برائحة الياسمين والحجارة، تعلو أثيره أصوات التكبير ونداءات المرابطين للذود عنه..

 تسمع بين جنباته أصوات صهيل الخيل وصليل السيوف، وانفجار المدافع وأزيز الرصاص..

تقال فيه القصائد ويدبج فيه الكلام وينسج في وصفه وقدسيته أجمل الجناس والطباق.. 

ولا يخلو مؤتمر قمة عربي، أو لقاء لزعيمين عربيين أو زعيمين إسلاميين إلا وجاء ذكره بين الأسطر، وكتبت حوله آلاف الكلمات مستنكرة وشاجبة لما يتعرض له من تهويد وتهديد.

المكان الذي عرج منه سيد الخلق إلى السماء، وأولَى القبلتين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال.

لا يُعرف بشكل دقيق متى بُني المسجد الأقصى لأول مرة، ولكن ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن بناءه كان بعد بناء الكعبة بأربعين عامًا، وقد اختلف المؤرخون في مسألة الباني الأول للمسجد الأقصى على عدة أقوال: إنهم الملائكة، أو النبي آدم أبو البشر، أو ابنه شيث، أو سام بن نوح، أو النبي إبراهيم، ويرجع الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في الباني الأول للكعبة.

المسجد الأقصى داخل البلدة القديمة لمدينة القدس، وهو اسم لكل ما دار حول السور الواقع في أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة القديمة المسورة.

 تبلغ مساحته قرابة 144 دونماً، حيث يشمل قبة الصخرة والمسجد القبلي وعدة معالم أخرى يصل عددها إلى 200 معلم، كما تعد الصخرة أعلى نقطة في المسجد حيث تقع في موقع القلب بالنسبة له.

وتعني كلمة "الأقصى" الأبعد، وسُمِّيَ الأقصَى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظَّم بالزيارة. والذي سمّاه بهذا الاسم وفقًا للعقيدة الإسلامية الله عز وجل في سورة الإسراء، قبل ذلك فقد حمل المكان اسم بيت المَقْدِس، وهذا الاسم هو المستَخدَم في معظم أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مثل ما قاله يوم الإسراء والمعراج: "ثم دخلت أنا وجبريل عليه السلام بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين".

وقد انسحب الخلاف حول التحديد الزمني لبناء المسجد الأقصى على تحديد دقيق للفترة التي قدم فيها العرب الكنعانيون إلى أرض فلسطين، سواء كان ذلك في الألف السادسة أم الرابعة قبل الميلاد.
وتجمع الدراسات التاريخية الموضوعية على أن الكنعانيين العرب هم أول الشعوب المعروفة التي جاءت من الجزيرة العربية وسكنت منطقة القدس بشكل جماعي، وتفاعلت مع ما خلفته الحضارة البدائية من أشكال الاستقرار، وطورت ما هو موجود من حياة اتخذت شكل القرية، إلى شكل المدينة، وعُرفت باسم "الدولة المدينة".

وضمن الشعوب أو الديانات التي مرت على القدس، مرورا غير كريم، بعد قدوم العرب كان اليهود.

و يحتل "الهيكل"، الذي يريد اليهود بناءه على أنقاض المسجد الأقصى بعد هدمه، أو تحته، مكانة مركزية عند اليهود، إذ يعتبر أهم مبنى للعبادة حسب زعمهم، فقد مرَّ هذا " الهيكل" بعدة مراحل زمنية، وتبدأ قصته بأساطير حول كيفية بنائه، وتنتهي بخرافات حول طريقة ووقت إعادة بنائه.

وتذكر المصادر الإسرائيلية، التي لا تقوم على سند تاريخي، أن نبي الله داود قام بشراء أرض من العرب اليبوسيين، سكنوا القدس بالتزامن مع الكنعانيين، ليبني عليها "هيكلاً مركزيًّا". 

وتولَّى ابنه النبي سليمان مهمة البناء التي أنجزها من الفترة 960 - 953 ق.م؛ ولهذا سُمِّي "هيكل سليمان" أو "الهيكل الأول"، وحسب الزعم اليهودي الذي يفتقد إلى دليل واحد مادي، قام سليمان ببناء "الهيكل" في المكان الذي يوجد فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة.

لكن الخلافات التي انتهت بانقسام "مملكة سليمان" إلى مملكتين صغيرتين، ومن ثَم السبي البابلي، الأمر الذي شتَّت مركزية العبادة، وأفقد "الهيكل" أهميته في فترة مبكرة. وقد هدم "نبوخذ نَصَّر" البابلي "هيكل سليمان" عام 586م، وحمل كل أوانيه المقدسة إلى بابل. 

وفي عهد الاحتلال الفارسي تم البدء في إعادة بناء "الهيكل"، وقام هيرودوس بتطوير هذا الهيكل، ويُطلق عليه اسم "الهيكل الثاني". وقد تم هدم "الهيكل الأول" على يد نبوخذ نصّر، في حين هدم الروم "الهيكل الثاني".

أما "الهيكل الثالث" فهو مصطلح ديني يهودي يشير إلى عودة اليهود بقيادة "الماشيح" إلى صهيون؛ لإعادة بناء "الهيكل" في آخر الأيام، ويذهب الفقه اليهودي إلى أن "الهيكل الثالث" لا بد أن يُعاد بناؤه، ويذهب الحاخام موسى بن ميمون إلى أن "الهيكل" لن يُبْنى بأيدٍ بشرية، بل إنه سينزل كاملاً من السماء.

وتقول المصادر التاريخية أن أول وجود لليهود بمدينة القدس كان بعد وجودها بألفي عام، وبعد أن كانت قد تحضرت على يد أصحابها العرب الكنعانيين الذين نشأوا في الجزيرة العربية. 

ومن المؤكد أن وجودهم فيها كان دومًا عابرًا ومؤقتًا، وعلاقتهم بـ"الهيكل" -على فرض وجوده الذي يفتقد للدليل المادي- ليست تلك العلاقة القوية والمتواصلة؛ وأن الحديث عن "الهيكل" كان مقترنا دائما بسياسيات توسعية استيطانية لا علاقة لها بالدين وبالتاريخ.

وما يحدث الآن هو امتداد لسلسلة طويلة من الخرافات والأساطير المؤسسة للسياسية الإسرائيلية وفقا للمفكر الراحل روجيه جارودي في كتابه الشهير.

الوجود اليهودي كان عابرا للقدس ولم يكن مستوطنا دائما، وكيانهم السياسي لم يقم بهذه الأرض إلا في فترة متأخرة جدًّا ولبضع سنوات لا تكاد تتجاوز خمسة وسبعين عامًا من بين خمسين قرنًا على هذه الأرض المباركة وهي مأهولة متحضرة.

والحفريات المتواصلة تحت المسجد الأقصى التي تتم بشكل سري وضعت الأسس لإعادة "الهيكل" المزعوم تحت المسجد، بحيث يبقى ما فوق المسجد للمسلمين وما تحته لليهود، أو التقسيم المكاني والزماني الذي بات واقعا، ربما بموافقة عربية،
"ممنوع دخول المسلمين"، "الآن هو الوقت المخصص لليهود فقط"، "الوقت ليس وقتكم".. هذا ما يسمعه الفلسطيني حينما يرغب بالدخول للمسجد الأقصى في الوقت الذي يكون فيه المستوطنون قد دنسوه ليؤدوا شعائرهم التلمودية داخله.

الصمت العربي موافقة غير معلنة على جميع القرارات الإسرائيلية التي لا يمكن تغييرها بالخطابات وبيانات الاستنكار وبالتصريحات التي تأتي على لسان وزير الإعلام أو الخارجية أو مصدر مسؤول.

ونتذكر ما قالته رئيس وزراء "إسرائيل" جولدا مائير بعد حرق المسجد الأقصى عام 1969:"لم أنم طوال الليل، كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجا من كل مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده".

نعم أفعلوا أي شيء تريدونه فلن تجدوا سوى حكومات مشغولة بهواجس الحفاظ على كرسي الحكم، ومحاولة عبثية لإرضاء السيد الأميركي وتابعه تل أبيب.