قضايا وآراء

شيخ الانتفاضتين .. قاتِل شارون!

1300x600
لقد تميزت شخصية الإمام أحمد ياسين بعبقريةٍ جعلت المستحيل ممكناً، وتغلَّبت على ظروفها القاسية، بل طوّعتها لتصبح عوامل بناءٍ وارتقاءٍ لحركة حماس التي غرس بيديه الطريتين في رحم الأرض السمراء البذرةَ الأولى لشجرتها المباركة. حينها لم يكن يمتلك إلا ضعفه الأقوى من احتلال مجبول بالخوف، لم يمتلك إلا عينيه الحزينتين النقيتين اللتين تستشرفان مستقبلاً عظيماً لحركة ولدت لتحرر الأرض والإنسان.

كان رقيقاً كنسمة صبحٍ باسم على وجه شهيدٍ لفظ أنفاسه الأخيرة؛ فانفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ عذبة. كان سنديانة الثورة تفتح زنودها للثوار كي يستريحوا تحت ظلها. لم تكن حياة الشيخ رغم ما ألمَّ به من أمراض على رأسها الشلل الكلي؛ لم تكن نزهة يومية لا تثير الدهشة، لم يكن "يتشمس" فوق سطح منزله الشاهق، بل كان قنديلاً في قلوب مريديه، مئذنة تصدح بالعقيدة والجهاد، وبندقية أعلنت تمردها في اللحظة الحاسمة.

كانت عيناه في اتساع الصحراء، تحملان الهمَّ الإنساني لشعبٍ عظيم يرزح تحت الاحتلال، وحينها نشب الشيخ أظفاره في اللحم الصهيوني، بكل ما فيه من عنفوان وكبرياء عسقلاني!

إن تلك الظاهرة المعجزة هي ما يمكن أن نطلق عليه عبقرية الشَّلل، فقلَّ أن تجد روحاً متوثبة على كرسيٍّ متحرك، يكون لها الفضل في تأسيس حركة كبيرة بوزن حماس. كيف احتملَ ذلك الجسم الضعيف قسوة السجن، وبرودة الزنازين، وكيف خرج من غياهب السجون صامداً كصخور القدس، لم تضعف عزيمته، أو تفتر إرادته؟ إنه معجزة القرن.

كانت حرية الشيخ بعد قرابة عقد من الحبس في سجون العدو، بمثابة انطلاقة جديدة لحركة حماس، التي أعطاها الشيخ دفقة مباركة من همته القوية. ذلك البطل الذي طالما ملأ مخيلة الشعب بالرؤى والملاحم، إنه عملاق الصبر الذي أصبح ملهماً لكل من اختار طريق الجهاد على أرض فلسطين المحتلة.

تخيَّر الشيخ أفضل الرجال لتنفيذ مشروعه التربوي، والتغييري، والجهادي على أرض فلسطين بعد أن أنار لهم معالم الطريق بدمائه، وترك مفتاح القضية الأصيل/البندقية عهدةً في أيديهم الطاهرة.

لقد لخصّت حياة الإمام قصة شعب بأكمله، وتمثل في شخصيته جوهر "المشروع الوطني" الذي تتطلع إليه حماس، ذلك المشروع الذي تصاعد بعد أن أصبحت دماء الشيخ وقوداً له، في مقابل انحسار مشروع شارون الذي اضطر للانسحاب الأحادي من قطاع غزة، والانسحاب في حقيقته هروب من جحيم غزة، "عن كل أمل تخلوا، أيها الداخلون هنا" هذا ما كتب على بوابة الجحيم كما يروي دانتي.

واليوم في الذكرى الحادية عشر لاستشهاد شيخ الانتفاضتين، لعلَّ من المفيد، بل من الضروري أن نسأل عن حماس بعد عقد على رحيل مؤسسها وملهمها الشيخ أحمد ياسين؟

كان الشيخ في قيادة حماس يسعى إلى حالة التوازن "Balance"، وإن لم تتوفر فقد حقق ما يسمى توازن الرعب، والذي شكل صداعاً مزمناً "لإسرائيل"، وهو بذلك جعل من كرسيه المتحرك طائرة F16 يقودها طيّار ماهر، يختار أهدافه بعناية، وينشّن بدقة واضحة. كانت تلك بداية النهاية لاستئصال سرطان "إسرائيل" من الجسم الفلسطيني، وبالتالي من جسم الأمة التي تترنح تحت سياط أعدائها. ولأجل ذلك تقدمت حماس بخطوات متسارعة واثقة، وحققت انجازات كان أهمها ما تمناه الشيخ في حياته بقوله: "احنا بدنا أولادنا يروحوا"، وقد عمل الشيخ كل ما يستطيعه من أجل تحقيق تلك الأمنية، لكنَّ أبناءه البارين جعلوها واقعاً، وحرروا إخوانهم من باستيلات العدو. ذلك هو الشيخ، وذاك هو الوفاء.

إن حماس بعد رحيلك يا سيدي، لا تزال على الدرب، لم تنحرف رغم أن الكثيرين يتحركون ضدها، إنها تسبح ضد التيار المهادن، ولكنها ماهرة في السباحة؛ فاطمئن يا شيخنا.

إن حماس التي هاجموها بشراسة متوحشة حين كان لحمها طرياً، هي الآن تهاجمهم "الآن نغزوهم ولا يغزونا"، لم تتردد حماس في وقت الشدة، فقادت الشعب إلى نصره المحتوم. هل نخبرك كم معركة خاضت حماس منذ رحيلك يا سيدي، كم شهيداً قدمت، كم أسيراً حررت، وهل نصف لك كيف أنها تمتطي حصان الغضب والكبرياء والكرامة والنصر، وتمضي لقتل الوحش المستوطن في أرضنا؟ لقد انتهت حماس من رحلة البحث عن الوطن، وفي جيب كل مقاتل خارطة فلسطين من البحر إلى النهر.

إن الذين اقتحموا "زيكيم"، "وناحل عوز" كانت أقدامهم هناك، وعيونهم تبتسم للقدس، يا سيدي.

هل نخبرك أن شارون ذهب إلى مزابل التاريخ، وأن مشروعه يتآكل يوماً بعد آخر، أمام مشروع التحرير الذي أسست له بدمك الزكيّ؟ لم يتأخر شارون بعد اغتيالك حتى قرر القضاء على "شريك السلام"؛ أخيك ياسر عرفات. ذكرّني ذلك باختلاف المشروعين "ياسين-عرفات"، وكيف أن القاتل واحد!

لقد كانت حياة الشيخ غذاءً روحيًّا شهيًّا أشبع جوع الشباب للجهاد على أرض فلسطين، وارتوى من معينه الرقراق حلق الأمة اليابس لرشفة عزَّةٍ وكرامةٍ وبطولة!