مقالات مختارة

سد النهضة بين السيسي ومرسي!

1300x600
كتب جمال سلطان: لست من هواة المقارنات الدائمة التي يرددها الإخوان بصورة نمطية بين عهدي السيسي ومرسي، خاصة في المظالم وأبواب الحريات، لأن بعض ما كان أيام المجلس العسكري الأول عقب انتصار الثورة كان أفضل من الاثنين معا، فالفضل كان لوهج الثورة وعنفوانها، وليس لطبيعة النظام ذاته، وهو الوهج والعنفوان الذي تآكل تدريجيا بفعل أخطاء الجميع، مع تسليمي بوجود فارق حقيقي -في فضاء الانتهاكات- يراه الجميع الآن، ولا يمكن إنكاره. 

لست أميل إلى المقارنات كثيرا، ولكني لا أستطيع أن أتجاهل موقف النظامين من حدث تاريخي وخطير ويتعلق بمستقبل مصر وشعبها ووجودها ومصيرها، وهو موضوع سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد مصر بصورة غير مسبوقة، نظرا لتعلقه بشريان الحياة للمصريين على مر التاريخ، وهو نهر النيل، فمثل هذا الملف ليس مسألة خلاف سياسي عارض أو مرحلي بين نظامين حاكمين. 

وبالتالي، فهو ليس قضية سياسية محصورة في تقدير النظام السياسي أو رئيس الجمهورية أو أي مسؤول آخر مدني أو عسكري، وإنما هي قضية وطن بكامله، بما فيه أجياله المقبلة، وبالتالي يكون من الواجب ـ وطنيا وأخلاقيا ـ أن يتنادى لدراسة الأمر والتشاور فيه كل قوى الوطن وخبرائه ومؤسساته، وأن يعرض الملف على مؤتمر وطني حقيقي وجامع وشامل ليأخذ حقه الكامل من النقاش والتفكير من جميع جوانبه. 

ولكن الذي حدث أن إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي انفردت بترتيبات غامضة في هذا الحوار، وكأنه قضية شخصية للسيسي، أو تحدي شخصي له، بل إن بعض أهل "النفاق السياسي" نظروا إلى هذا الملف باعتباره تدشينا لشرعية جديدة للسيسي وعودة مصر إلى مسارها الطبيعي، على الرغم من أن تصريحات وزير الخارجية المصرية عن أن السد أمر واقع، ولا يمكن وقفه، ولا بد من التعايش معه، كانت تشي بالانكسار والهوان وقلة الحيلة. 

وظل المصريون حتى اللحظات الأخيرة لا يعرفون شيئا عن تفاصيل الاتفاق الجديد، أو ما يسمى باتفاقية "إطار المبادئ" بين دول حوض النيل، حتى تم نشرها عبر وسائل الإعلام . وللأمانة، فإنه مما يحسب لمحمد مرسي وإدارته أنه حرص على أن تكون مناقشة هذا الملف عبر حوار وطني موسع برعاية رئاسة الجمهورية، من مختلف القوى والأحزاب والتيارات والخبرات المصرية، صحيح أن ترتيبات الحوار لم تكن بمستوى يليق بجلال الموقف والحالة. 

إلا أن وعيه بأنها قضية وطن ومستقبله، وليست قضية سباق سياسي محلي، جعله يأخذ الخطوة الصحيحة، وهي الشراكة الوطنية العامة في مناقشة هذه القضية الخطيرة، وكانت القوى المعارضة لمرسي وقتها بما فيها الإعلام تسخر بشدة من سلوكه، ومن طبيعة الحوار المطروح، رغم أنه ليس رأيه، وإنما آراء مختلفة يطرحها قادة أحزاب ومفكرون وخبراء من حقهم جميعا أن يفكروا في الخطر الداهم، كانت أشبه بعصف ذهن، كل شيء مطروح، وكل احتمال ممكن مناقشته، قبل تصفيته في النهاية على خيارات رسمية. 

وتم تسريب وإذاعة بعض جوانب الحوار رغم سريته، ولا نعرف حتى الآن من تعمد هذا "الاختراق" الذي كان المقصود منه إحراج مرسي وصناعة مادة إعلامية للاستظراف والسخرية، متجاهلين أنها قضية وطن، وأنها أعلى وأجل من أن تكون مادة للاصطياد السياسي الداخلي . الاتفاقية التي وقعها السيسي في الخرطوم هي في المعيار السياسي "فنكوش".

ومن أولها إلى آخرها عبارات إنشاء بليغة عن الاحترام والتقدير والمراعاة، دون أن يكون هناك مادة حقيقية صريحة وواضحة تحدد ما هي حقوق مصر في هذه الاتفاقية، بل إن إثيوبيا أصرت على أن تكون الاتفاقية غير ملزمة، وحققت مرادها، يعني "تبلوها وتشربوا ميتها"، غير أن أخطر ما مثلته هذه الاتفاقية أنها اعتراف مصري رسمي من خلال مؤسسة الرئاسة بشرعية سد النهضة، وأنه حق لأثيوبيا، وأن مصر تضع توقيعها عليه، ولم يعد من حقها الاعتراض على أي نتائج له أو الاعتراض عليه هو مستقبلا. 

وكان الاعتراض المصري قد تسبب في تعطيل المشروع وتعثره وبطء العمل فيه، وامتناع المجتمع الدولي عن تمويله، الآن قدم السيسي خدمة التاريخ كله لإثيوبيا، ووضع عنق مصر في قبضة السلطات الإثيوبية من الآن فصاعدا، في منطقة صراعات قلقة ومتوترة وملتهبة، لم تعرف يوما احتراما لاتفاقيات أو حدود أو معايير دولية. 

كما أن توقيع السيسي على الاتفاقية الجديدة أنهى –عمليا- مرجعية الاتفاقات التاريخية الحاسمة لحقوق مصر في النيل، وخاصة اتفاقية عنتيبي، وجعلها ذكرى للتاريخ لا قيمة لها، وإقرارا ضمنيا من مصر بأنها لم تعد قائمة، باختصار، وبعيدا عن أي هجص سياسي وإعلامي، مصر ركعت لإثيوبيا في موضوع السد، وعلى الأجيال المصرية المقبلة أن تستعد للأسوأ في عمر هذا الوطن  . 

مع الأسف، بلادنا تضيع في سوق المزايدات الرخيصة وتهميش الشعب وتغييب إرادة الأمة وموت الشفافية، والبحث عن أمجاد شخصية، واكتساب نقاط سياسية لزعامات، وليس للوطن والشعب.

(عن صحيفة مصريون، 24 آذار/ مارس 2015)