قضايا وآراء

تداعيات هجوم جامعة غاريسا !

1300x600
لا يمكن بأي حال من الأحوال تفهم أو تبرير أو تسويغ الهجوم الدموي المروع الذي شنته حركة الشباب الصومالية علي جامعة مدينة غاريسا - حاضرة محافظة الشمال الشرقي الكيني - في فجر يوم الخميس 2 من أبريل الجاري، والذي أودى بحياة أكثر من 148 شخصا، غالبيتهم الكاسحة من طلبة الجامعة وكوادرها، بل الواجب رفض مثل هذه الأعمال وشجبها وإدانتها، لأنه لا يجوز إزهاق أرواح الأنفس البريئة شرعا وعقلا، أو سلب حق الحياة من أي إنسان بغض النظر عن ديانته أو عرقه أو جنسه أولون بشرته، مالم يرتكب جرما يعاقب عليه الشرع والقانون بالقتل.

وقد وصف الهجوم علي جامعة غاريسا بأنه أفظع وأبشع الهجمات التي شهدتها كينيا منذ التفجير الانتحاري الذي استهدف السفارة الأمريكية في نيروبي في 7 أغسطس عام 1998، والذي أوقع 213 قتيلا وعشرات الجرحى، والهجمات التي تخطط لها حركة الشباب الصومالية علي أهداف ومواقع في كينيا يفترض أنها محصنة ومؤمنة جيدا قد تصاعدت وتيرتها في السنوات الأخيرة، وبلغ عد د القتلى علي يد الحركة منذ تسلم الرئيس الكيني أهورو كينياتا مقاليد الحكم في 9 أبريل عام 2013 نحو 400 شخصا، من بينهم 67 شخصا لقو حتفهم بعد أن اقتحم مسلحو حركة الشباب مركز '' ويست غيت '' التجاري في نيروبي في 21 سبتمبر عام 2013، وهي نسبة كبيرة وخطيرة بكل المقاييس، واهتزت بسبب هذه الهجمات ثقة الكينيين في حكومتهم وأجهزتهم الأمنية التي لطالما اتهمت بالتباطؤ والتلكؤ وعدم اتخاذ خطوات حاسمة وحازمة لمواجهة " الخطر الوجودي " الذي تشكله حركة الشباب علي كينيا، وألحقت عمليات " الشباب " الضرر البالغ بالقطاع السياحي في كينيا الذي يعتبر الشريان الحيوي لاقتصاد البلاد، بعد مغادرة العشرات من السياح الأجانب للأراضي الكينية نتيجة لهشاشة الوضع الأمني في بعض المرافق السياحية، ولإصدار بعض الدول الغربية تحذيرات أمنية لمواطنيها بعدم التوجه إلي كينيا لغرض السياحة وقضاء العطلات.

اعتبرت كينيا منذ فترة طويلة ''بحيرة'' تنعم بالأمن والاستقرار والازدهار الاقتصادي والرخاء المعيشي في محيط يموج بالقلاقل والاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية، وتميزت كينيا بالتسامح الديني والتعايش السلمي بين مواطنيها المتنوعين على أسس قومية وإثنية ودينية، وحققت كينيا طفرة اقتصادية وتنموية هائلة في العقدين الماضيين نتيجة لتحول نيروبي إلي قبلة اقتصادية لكبار المستثمرين وشركات الاتصالات العملاقة والمؤسسات التجارية الدولية والبعثات الديبلوماسية التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، لكن تورط الجيش الكيني في المستنقع الصومالي - بعد إطلاق نيروبي لحملتها العسكرية المعروفة إعلاميا ب "ليندا إنشي" في 16 أكتوبر 2011 لتعقب حركة الشباب في داخل الصومال بعد اختطافها لبعض السياح وموظفي منظمات الإغاثة الدولية - وتكثيف الحركة للهجمات والعمليات الانتحارية التي تنفذها في كينيا هو الذي وضع البلاد في قلب الصراعات الدامية، وجعل القلق يساور الكثيرين من مآلات المستقبل بعد أن سيطر عليهم هاجس الوضع الأمني، ودفع بعض المستثمرين لنقل أعمالهم واستثماراتهم إلي بلدان أخري في منطقة شرق أفريقيا.

هجوم جامعة غاريسا سيختلف عن الهجمات التي شنتها حركة الشباب على مواقع في كينيا في السنوات الأربعة الماضية، ليس لأنه الأكثر وحشية ودموية، ولكن لأنه سيفخخ السلم المجتمعي في كينيا، وسيدفع الحكومة الكينية إلي تضييق الخناق علي المسلمين بشكل عام والجالية الصومالية الكبيرة في كينيا بشكل خاص، وستكون له تداعيات خطيرة تأخذ أشكالا وأنماطا مختلفة على مسلمي كينيا، بعض هذه التداعيات بدأت تلوح في الأفق بعد أن جمدت الحكومة الكينية الأرصدة البنكية لعشرات من العلماء المسلمين والتجار ورجال الأعمال، وأغلقت بعض الحوالات والمصارف الصومالية بتهمة تمويل أنشطة إرهابية، وأعلنت الحكومة الكينية مؤخرا أنها ستغلق مخيم "دداب" للاجئين الذي يؤوي نحو 30,000 لاجئ صومالي بدعوى أنه أصبح منطلقا وملاذا آمنا "للإرهابيين"، وطلبت نيروبي من الأمم المتحدة إجلاء اللاجئين الصوماليين وإعادتهم إلي محافظاتهم في الصومال، وعلى سياق متصل، أصدر اتحاد المعلمين الكيني تعميما لأعضائه بعدم العودة إلي مزاولة مهنة التدريس في محافظة الشمال الشرقي الكيني لتزايد المخاطر الأمنية، وتقدم بعض الأطباء والممرضين في مستشفى غاريسا العام - من غير المسلمين - بطلب إلى مسؤولي القطاع الصحي في المحافظة بإعفائهم من مهامهم الطبية في المنطقة ونقلهم إلى محافظات أخرى في كينيا نظرا للقلق الأمني، وأعلنت السلطات الكينية أيضا أنها ستغلق جامعة غاريسا التي تعرضت لهجوم حركة الشباب مؤخرا, وأنها ستنقل طلبتها إلى جامعات أخرى في كينيا لاستكمال العام الدراسي الحالي، والملفت للنظر أن جامعة مدينة غاريسا هي الوحيدة في محافظة الشمال الشرقي الكيني، وقد افتتحت عام 2011 لامتصاص غضب المواطنين الذين يشكون دوما من الإهمال والتهميش والتمييز في ظل الحكومات الكينية المتعاقبة.

ثمة أسباب تمكن حركة الشباب الصومالية من القيام بعمليات نوعية ومباغتة في داخل الأراضي الكينية، فاستشراء الفساد المالي والإداري في الدوائر الحكومية الكينية وتدني منسوب العقيدة القتالية والمعنويات والاستبسال لدى قوات الأمن الكيني وعدم التعاون مع دول الجوار في المجالات الاستخبارية والعسكرية لرصد تحركات حركة الشباب ومراقبة أنشطتها في إغراء الشباب وتجنيدهم وتعبئتهم كلها عوامل تساعد الحركة في تنفيذ هجماتها في كينيا، لكن العامل الأهم الذي مكن الحركة من استقطاب عدد من المتعاطفين والمؤيدين في كينيا وزرع خلايا نائمة فيها تمارس عملها بسرية تامة هو شعور مسلمي كينيا المتنامي بالظلم والضيم والاضطهاد، فالمسلمون -الذين يشكلون نحو 11 % من سكان كينيا وتسكن غالبيتهم العظمي في محافظة الشمال الشرقي والمناطق الساحلية من البلاد - يعانون من التمييز السياسي والاقتصادي والدستوري حسب لجنة العدالة والمصالحة الوطنية في كينيا، وهي لجنة مستقلة تشكلت بعد الأحداث الدامية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2008، وتوصلت اللجنة إلى أن التهميش والإقصاء والإهمال والتمييز وعدم تكافؤ الفرص وارتفاع نسبة البطالة في أوساط المسلمين هي التي تدفع بعض شباب المسلمين في كينيا للالتحاق بصفوف حركة الشباب الصومالية، وهذا أمر واضح وجلي، فالمحافظات التي يسكنها المسلمون في كينيا تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية من طرق معبدة ومدارس ومشافي، ويرتفع فيها نسب الفقر والبطالة والنمو السكاني وانعدام الأمن، وهناك اتهامات توجهها بعض المنظمات الحقوقية كمنظمة ''هيومن رايتس ووتش'' إلى الحكومة الكينية بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق المسلمين، وذلك بإطلاق يد الأجهزة الأمنية للقيام باعتقالات عشوائية في أوساط المسلمين ومداهمات ليلية لمنازلهم بدعوى البحث عن المشتبه بهم والمطلوبين للجهات الأمنية واستخدام القوة المفرطة للبطش والتنكيل بالمسلمين عموما والصوماليين بشكل خاص، كما تحدث تقرير ''رايتس ووتش'' حول ممارسات الأجهزة الأمنية في كينيا عن التغييب القسري والقتل خارج إطار القانون، وهي اتهامات تنفيها الحكومة الكينية بشدة وتؤكد أنها عارية عن الصحة.