قضايا وآراء

صَنَمُ مصر ووثَنُها

1300x600
تتابعت أحداث مأساوية في تاريخ مصر على مدى مئات السنين؛ ربما تكون المأساة أكثر عمرا من ذلك ولكن تجمعت كل آثارها في تلك السنوات الستين الأخيرة. إنها السنوات العجاف التي قُتِلت فيها مصر مع سبق الإصرار والترصد. 

الصنم هو ما له صورة الإنسان ويعبد ويقدس أما الوثن فهي تلك الصور الذهنية الشبيهة بطَوْطَم فرويد التي تحمل قوي خارقة و تعطي المؤمنون بها قدرة فائقة على تفسيرات غير منطقية تُعزَّز من الإيمان بأنها الحامية والمدافعة وأنها منزهة وغير قابلة لنقدها أو حتى الحوار حولها؛ فهي أقرب لتلك الآلهة القديمة التي توارثتها الأجيال جيلا وراء جيل التي لا ينبغي التخلي عنها "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ".

المؤمنون بهذه الأوثان يرفضون بشدة التعرض لأوثانهم ويعتبرونها إهانة شخصية لهم وربما ينتحر المنطق على شفاههم وعقولهم في مذبح الطَوْطَم عندما تُعْرض الحقائق والوثائق؛ ولكن أي وثائق تلك التي يمكنها إزاحة غبار كثيف تراكم لعقود طويلة وأي حقائق تلك التي تلفت عيون هؤلاء عن الوثن المقدس والطوطم المُتحكِّم.

بعد انقلاب 52 التي سبق بها الجيش ثورة شعبية كانت علي وشك الاكتمال وتلاه انقلاب آخر 54 (صورة تاريخية لانقلابات  2011 التي حولها الجيش من ثورة إلى انقلاب و2013) انطلقت كل أدوات النظام لصناعة الوثن؛ وأبدعت جميعها في صناعة صورة ذهنية أبعد ما تكون عن الحقيقة في دور الجيش المصري في كل معاركه التي خاضها - والتي هي مهمته الأولى- وصدق الكثيرين بل ربما الجميع؛ إلا أن البعض توقف للحظات ليحاول رؤية الحقيقة وإزاحة الغبار الذي تصنعه ماكينات صناعة الوعي عليها ويحاول أن يزيح الغبار عن عقول الشعب البائس تحت براثن ظلم العسكر وكذبهم؛ ولكن تجد من يقاتل من أجل حماية الغبار والوثن.

في حرب فلسطبن عام 1948 يروي اللواء أحمد علي الموواي قائد الجيش المصري في تلك الحرب أمام محكمة " الثورة" أن الجيش غير مدرب ولا يستطيع خوض حرب ورد عليه النقراشي باشا " أنه يعتقد أن المسألة ستسوى سياسياً بسرعة. وأن الأمم المتحدة سوف تتدخل" ولو عرف الشهيد البطل أحمد عبد العزيز وآلاف الشهداء معه ما يدور في الغرف المغلقة ربما أداروا فوهات بنادقهم "التي لم تكن فاسدة كما ادعى عسكر مصر" إلى مكان آخر.

وتستمر المأساة علي صوت عبد الحليم حافظ وهو يغني في احتفالات "الثورة" انتصرنا انتصرنا بعد كارثة 56 والتي حفظ فيها ماء وجوهنا المقاومة الباسلة لرجال القناة بعدما انفرط عقد "الجيش" كعادته القديمة التي يأبى أن يتخلى عنها؛ فقد قال الجمسي عن تلك الكارثة أن العسكر سلم مدينة بورسعيد ومن دافع عنها هو القطاع المدني الذي أبى تسليم المدينة دون قتال. 

والجميع يعلم ما حدث في 67 كارثة الكوارث التي أنهت الجيش بأكمله وخرج علينا فيلسوف أجيال الهزيمة بتعبير النكسة الكوميدي وكأن الهزيمة الساحقة نكسة؛ وكأنها حالة طارئة وسط أمواج الانتصارات. آلاف القتلى من أجل أن تتدخل الأمم المتحدة كما حدث في عام 48 وكأن قيادات الجيش تحمل جينا للهزيمة لا ترضى بغيره.

وتأتي الحرب التي أقامت عليها نظم العسكر شرعية وجودها؛ فكل نظام عسكري فاشي يصنع شرعيته من انتصارات عسكرية؛ أما عسكر مصر فيصنعونها من هزائم تحولت لانتصارات في الكتب والجرائد والشاشات والتي تم تخصيصها حصريا لصناعة الوعي المعلب سابق التجهيز؛ وتفعل ذلك بحجم هائل من الأكاذيب والتضليل؛ ويجدر الإشارة هنا إلى نبل الكثير من مجندي وضباط الجيش الذين خاضوا المعركة ظنا منهم أنهم في حرب مقدسة إلا أن الحقيقة غير  ذلك؛ وهناك في غرفة محصنة وقف رجل وحده وهو الفريق الشاذلي الذي فضح عسكر أكتوبر بعد ذلك في مذكراته وأحاديثه. إن أفضل ما يقال عن حرب أكتوبر حفظا لمشاعر من لا يستطيعون تصديق الهزيمة أنها خرجت بهزيمة مشتركة أو نصر مشترك أما أنها نصر للجيش المصري فهذه حالة من تقديس الوثن انتُزِع منها المنطق والعقل؛ فقد كان وضع القوات علي الجبهة المصرية والسورية في 24 أكتوبر وضعا متفوقا لجيش الصهاينة ولقد أصر الجيش الصهيوني بأن تكون المفاوضات عند الكيلو 101 من القاهرة ولا توجد أي دفاعات بين تلك النقطة والعاصمة القاهرة؛ كما أن مصر هي من طلبت وقف إطلاق النار. ويذكر الفريق الشاذلي بأننا لم ننتصر في الحرب وأن اتفاقية وقف إطلاق النار و ما تبعها من اتفاقيات السلام في كامب دافيد وغيرها كانت انعكاسا للموقف العسكري في ذلك، أي ببساطة ودون تعقيدات لغوية؛ هزم الجيش المصري في 1973، فتم وقف إطلاق النار وأديرت المفاوضات بشروط المنتصر (الجيش الإسرائيلي)؛ ولا بد أن نذكر أن القوى الشعبية مرة أخرى هي التي دافعت عن السويس بعد غياب عسكر مصر المعتاد في الدفاع عن أرضها.

ربما لا يريد البعض؛ كما هو الحال في حياتنا الخاصة؛ أن يتذكر أو يدرك فشله الذريع؛ ونفعل كما تفعل أمهات الطلبة الفاشلة التي تتحجج بأن ابنها أكثر سكان الأرض ذكاء ولكن هناك شيء آخر يجعله يرسب، وأرى أنه لو كانت مدركة فشله ولا يوجد معايير تقييم ستعتبره أعظم فلاسفة العالم. ونحن هكذا كنا نفعل مع الجيش؛ ولكن عندما تصل الأمور إلى أن يصبح الجيش آداة تدمير مصر الكبرى فعلينا أن نتحمل الصدمة ونعلن أن الجيش المصري لم ينتصر في أي من معاركه وأن يهوى الانسحاب ولا يعرف غير تسليم المدن.

أي تلاعب بالعقول وأي جريمة في حق شعب كامل عندما تزيف الحقائق من أجل حماية طبقة الضباط الحاكمة التي تفر في المعارك؛ ثم نجد من يتهم مزيلو الغبار وهادمي الأوثان أنهم يلوثون التاريخ؛ وهل يكون عرض الحقائق الموضوعية الموثقة تزييف ويتحول الواقع الكاذب إلى حق مبين؟ إن التاريخ هو أبو الحاضر ولا حاضر واعِ بغير تاريخ غير مزيف. إن تدمير وتزييف التاريخ أسوأ ما يمكن فعله بأمة وأسرع وسيلة لفصلها عن ثوابتها وحضارتها وحلمها بالتقدم وصناعة الأوثان هي حرفة قديمة للاستبداد ولا استبداد بدون أوثان ولا حرية بغير التحرر من هذه الأوثان وإزالة غبار الزيف. ولن ينتصر شعب على المستبدين بدون إدراك حقيقة الواقع ولن يحدث ذلك بدون هدم الأوثان الفكرية المصنوعة من ماكينات الكذب والتضليل. فوثن مصر الأكبر هو الجيش وصنمها قائده.

يقول مارتن لوثر كنج: "نحن لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا".