كتاب عربي 21

"مرسي" الغائب الحاضر!

1300x600
"الضد يُظهر حسنه الضد". فما كان لنا أن نعرف قدر الدكتور محمد مرسي، لو لم يأت من بعده "عبد الفتاح السيسي"، الكَلُّ على مولاه؛ أينما يوجهه لا يأتي بخير.

تكفي المقارنة بين زيارة الرئيس محمد مرسي لألمانيا، وزيارة عبد الفتاح السيسي لها، لنعرف قدر الرجل، ولنقف بذلك، على كيف كانت مصر تقف على أرض صلبة، فصارت تقف على الرمال المتحركة!.

لا شيء تغير في ألمانيا خلال هذه الفترة، لا في ما هو خاص بالمستشارة الألمانية، التي التقت بالاثنين، ولا في الاحتياج الألماني للسوق المصري والنظرة الألمانية لمصر، فمصر تأتي في المرتبة الثالثة بين الدول العربية من حيث التبادل التجاري بالنسبة لألمانيا، بعد السعودية والجزائر، وسوقها يعطي للسلع الألمانية المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، ولا توجد شركة ألمانية كبرى ليس لها فرع في مصر، أو تمثيل!.

والديمقراطية، ليست هي الموضوع الأول في التقديرات الألمانية، لكن أمن إسرائيل هو من له الأولوية، وقد تحقق على يد عبد الفتاح السيسي، ليس فقط عند المقارنة بعهد الرئيس محمد مرسي، ولكن بالمقارنة بما كان في عهد مبارك، الذي وصفه القادة الإسرائيليون بكنزهم الاستراتيجي. فالسيسي هو الراعي للأمن الإسرائيلي في المنطقة، وما تدميره لسيناء الآن بعد أن كنا ننتظر تعميرها في عهد الرئيس محمد مرسي، إلا "عربون محبة" للجانب الإسرائيلي، الذي لا يريد أن يحرج السيسي بإعلان "الحب العذري" له، لكن وكما جاء في "علم الإجرام" فإنه لا توجد جريمة مكتملة، فهناك كتابات إسرائيلية وجدت طريقها إلى النشر، أعلنت عن أن التنسيق الأمني مع (مصر السيسي) صار في أعلى مستوياته وبشكل يتجاوز ما كان حاصلاً أيام مبارك!.

الرئيس مرسي، ذهب إلى ألمانيا واثق الخطوة يمشي ملكاً، ليجد في استقباله بالمطار المستشارة الألمانية، ليستقبل هناك استقبال الفاتحين، فلا يوجد أحد من القادة الألمان رفض مقابلته، كما حدث مع عبد الفتاح السيسي، الذي رفض رئيس البرلمان استقباله، وأصدر حيثيات لقراره، تخرج نظام السيسي من التاريخ الإنساني، بسبب الجرائم التي ارتكبها ضد الإنسانية. ولم يعلن أحد هناك رفضه لزيارة مرسي، مع أن الثورة المضادة كانت تصف الرئيس المنتخب بالديكتاتور والمستبد، لكن العالم الغربي المطلع على كل كبيرة وصغيرة داخل بلادنا يعلم أنه حديث الإفك.

في حين أن عبد الفتاح السيسي دخل ألمانيا خائفاً يترقب، واستدعى قصره الرئاسي وفدا من الفنانين والإعلاميين ليكون في استقباله هناك، وهو أمر لم يطلبه مرسي من أنصاره، ولم يكن بحاجة لشحنهم من القاهرة، ففي ألمانيا ما يكفي من المؤيدين له والمناصرين لحكمه بما يمكنه من القيام بالدور وبشكل أكثر لياقة، من هذه الفضيحة غير المسبوقة في تاريخ  الدول!.

بيد أن مرسي لم يكن بحاجة لأن يحصل على شرعيته من "مهرجان"، فقد كان يحوز شرعية مكتملة بمقاييس التاريخ، كإفراز لثورة عظيمة، وبمقاييس الحاضر المعتمدة غربياً وفي أكثر المجتمعات تقدماً، كرئيس جاء للحكم عبر صندوق الانتخاب.

ولم يكن مرسي وهو يتمثل شامخاً في زيارته لألمانيا، يستمد شموخه من كونه أستاذا جامعيا مرموقا، فهناك الآلاف من أساتذة الجامعات في بلده، يعاملون على أنهم مجرد موظفين في الدولة. كما أن هذا الشموخ لم يستلمه من كونه برلمانيا سابقا ولدورة واحدة، فقد كان أداؤه فيها مميزا نسبياً لكنه لم يترك بصمة، فلم يكن برلمانيا في سمعة "محمود القاضي"، أو "ممتاز نصار"، أو "علوي حافظ"، أو "صلاح أبو إسماعيل".

ولم يستمد مرسي شموخه من كونه أحد أبناء العائلات التاريخية في مصر، فلم يكن الرجل سوى ابن لفلاح بسيط، ومن عائلة متواضعة، لكن الجماهير نفخت فيه من روحها، فتمثل اللحظة بكونه جاء لموقعه بإرادة ثورة أبهرت العالم، وأنه يرأس بلدا في حجم مصر، هو الأمر الذي استقر في وجدان القادة الألمان، فكان الاستقبال بحجم التمثيل!.

ولم يكن الرجل الذي جاء رئيساً بإرادة الشعب المصري، بحاجة لزفة، ولم يخف من شعبه، فالتقى بالجالية المصرية، بعد أن وجه الدعوة للجميع، فلم ينزعج وهو يسمع أصواتاً معارضة له في اللقاء، ولم يخيل إليه لحظة أن شرعيته يمكن أن تخدش لأن من بين الحاضرين من احتد عليه في الخطاب، ورأى أن في هذا نيلاً من هيبته، فالهيبة يستمدها من استماعه لشعبه، لا أن يهرب منه، فليس لصاً قام بالسطو على الحكم وسرقه.

"ولم يجدوا في الورد عيباً فقالوا له يا أحمر الخدين"، فقد تربص به إعلام الثورة المضادة، ووجدوا في نظرة منه في ساعته وهو يلتقي ميركل، جريمة، فاعتبروا التصرف إساءة لمقام الرئاسة، وكان الرجل يخشى أن يتأخر على أعضاء الجالية المصرية الذين هم في انتظاره، لكن ماذا نقول للمتربصين؟!.

لا بأس، فقد ظهر زعيمهم الملهم وإصبعه على أنفه في المؤتمر الصحفي، وهي حركة لو فعلها تلميذ في الفصل لوجب على المعلم أن يضربه على إصبعه حتى لا يقدم على هذا التصرف أبداً.

ما علينا، فلن نمسك في هذه الصغائر لسبب بسيط، وهو أننا لسنا بحاجة إليها!.

السيسي لم يكن كمرسي، فرغم "فرح العمدة" المنصوب والذي كان في انتظاره، فقد دخل السيسي ألمانيا يتوجس خيفة، فكما أرسل فرقته الموسيقية لتعزف في استقباله فقد كان هناك من هم أضعافهم يهتفون ضده، ويرفعون صور الغائب الحاضر الرئيس محمد مرسي، الذي استكثروا عليه أن ترفع صوره في مصر، فرفعت في كل أنحاء العالم، لتمثل أيقونة لقائد عظيم، كل ما فعله عندما جرى الانقلاب عليه أنه صمد فإذا بصموده يلهب الجماهير، وإذا به يصبح المصري الأكثر شهرة في العالم. 

في اجتماع  بالأمم المتحدة، سأل الأمين العام: السيسي: من أنت؟. لكنه حتماً سيتعرف على مرسي بسهولة.

عندما قدم إلى ألمانيا، كان عبد الفتاح السيسي يعلم بحجم الجدل الذي أثارته زيارته، وحجم الغضب الذي فجرته في قمة السلطة هناك، وفي الإعلام، فكان طبيعيا أن يدخل ألمانيا "يتسحب على أطراف أصابعه" فهو سرق سلطة بقوة السلاح.

تحتاجه ألمانيا، لاحتياجها للسوق المصرية، لكن لا يمكن أن تجاهر بالمعصية وتدافع عنه، وكان قرار إحالة أوراق الرئيس محمد مرسي للإعدام قد سبق الزيارة فزاد من مساحة الغضب، وبدا من حديث السيسي في المؤتمر الصحفي الذي لم يكتمل، أن اللقاء الذي تم بينه وبين "ميركل" شهد "تكديره" بالمفهوم العسكري، فخرج يقدم تبريرات مرتبكة لأحكام الإعدام، التي قال إنها صدرت في مواجهة غائبين، وبمجرد حضورهم ستسقط هذه الأحكام، مع أن المئات ممن صدرت ضدهم كانوا في قفص الاتهام، وسبعة منهم تم تنفيذ هذه الأحكام فيهم!.

لقد كان السيسي مرتبكاً، في رده على أسئلة الصحفيين، وكأنها أسئلة "معلم" في امتحان شفهي يتوقف عليها مستقبل التلميذ، ومن الواضح أن اللقاء السابق على المؤتمر كان مرسي هو فيه الموضوع، فخرج يتحدث عن أن "الرئيس محمد مرسي" جاء بانتخابات نزيهة. وإن أعاد تلاوة النسبة التي حصل عليها، تقليلاً من حجم التأييد الشعبي له، ولم يعلم أنه غادر السودان إلى مجتمع آخر تعد فيه هذه النسبة محترمة ومقدرة!

ولم يستطع أن يفعل ما فعله الدكتور محمد مرسي فيدعو الجالية المصرية إلى لقاء مفتوح، أو حتى مغلق. فليست لديه القدرة على الدفاع عن موقفه، لكن الجالية المصرية وصلت إليه ولترتيبات أمنية، أمام مقر المستشارية الألمانية، حيث بدل الأمن في المواقع بسبب كثرة أعداد المعارضين، ونظر السيسي للناحية الغلط مبتسماً، ظناً منه أن عينيه ستقع على "يسرا" أو "إلهام شاهين"، فإذا بها تقع على صورة "الغائب الحاضر" محمد مرسي، فيمتقع وجهه!.

كأن مرسي صار لعنة تطارده في كل مكان، وكأنه صار بحضوره الطاغي عقابا إلهيا له حتى لا يهنأ بالمسروقات!.

مشهد الاستقبال في الأولى والثانية، يلخص الموضوع برمته ويجيب عن سؤال حول أين كنا وأين أصبحنا؟، بل إنه أكبر دليل على أن ثورة يونيو ليست امتداداً ليناير، وأن يونيو لا تداني يناير في الشرف وفي المكانة. فمرسي ببساطته جاء تعبيراً عن يناير فبدا شامخاً، والسيسي أفرزته الثورة المضادة، فكان كلص جرى ضبطه متلبساً مع عنجهيته وامتلاكه للقوة.

الثورة أعزت بسيطاً، والثورة المضادة أذلت من ظن أنه لن يقدر عليه أحد. تماماً كما أعز الإسلام سلمان الفارسي وأذل الكفر الحسيب أبي لهب! 

تحية للرئيس الشرعي في محبسه.