كتاب عربي 21

لماذا يكرهون الفلوجة؟!

1300x600
مع حادثة الحرق المروّعة التي اقترفها جنود "الحشد الشعبي" في العراق، يدعو بعض محازبي المحور الإيراني لإحراق مدينة الفلوجة كحلِّ ضرورة لا مناص منه لوقف الحرب، فمن جهة لا يمكن الحديث عن إمكان للتفاهم مع "داعش"، ومن جهة أخرى فإنه لا سبيل لإقناع الفلوجة بالكفّ عن تمردها إلا بإحراقها، هي وكل مدينة سنية متمرِّدة، ويمكن في هذا السياق الاستشهاد بالمقاربات المستدعاة عنوة من تاريخ العالم، للقول بأن "الحشد الشعبي" هو المخلّص الوحيد للعراق من خطر السنة على أنفسهم وعلى العراق وعلى المنطقة!

تحتاج هذه الدعوة، كي تصير مقبولة ومنسجمة مع ادعاءات المحور الإيراني، إلى تزوير الموقف تمامًا على نحو يبدو فيه "الحشد الشعبي" كفاعل وطني وعقلاني في مواجهة وحوش مريضة بالكراهية والطائفية والانغلاق الوهابي والعيش خارج عالم اليوم، وحينئذ فمنذ الذي يمكنه الإنكار على حلٍّ بهذه القسوة لا بديل عنه إلا الخليج الوهابي الطائفي؟!

ولمزيد من المعقولية لا بد من توسيع دائرة الاتهام لتشمل الحراك السني السلمي السابق على سيطرة "داعش" على الموصل، فالمشكلة ليست في "داعش" وحدها، بل وأيضًا في أهالي المدن التي تسيطر عليها، أي في سنة العراق "البعثيين الصدّاميين" في مرحلة، ثم "التكفيريين الإرهابيين" في مرحلة أخرى!

لا مهرب في هذه الحالة، من التوسل بالدّجل، لطمس الحقائق التي تجعل من "الحشد الشعبي" القسيم الموضوعي لـ "داعش"، مع بعض نقاط التفوق لصالح "داعش" التي يقاتلها "الحشد الشعبي" بالسلاح الأمريكي وأسفل الطائرات الأمريكية، إذ يمكن بمسح بسيط للقنوات الفضائية التابعة للمليشيات الشيعية المكوّنة لـ "الحشد الشعبي"؛ إدراك مستوى الخطاب الطائفي البغيض والكريه والموغل في الخرافة والهذيان والماضوية والتوحش إلى الحدّ الذي ترى فيه تلك المليشيات سكان المدن السنية سارقين للحكم من الشيعة منذ 1400 عام، لتكون حرب هذا "الحشد الشعبي" بالفعل حربًا ثأرية وطائفية، ومجنونة ولا تنتمي أبدًا إلى عالم اليوم، على المدن السنية كلها، لا على "داعش" فحسب!

وإذن، فإن الحرب في شكلها البسيط بين قوتين طائفيتين متوحشتين، بيد أن إحداهما، وهي "الحشد الشعبي"، سليلة القوى التي حملتها الدبابات الأمريكية بعد إسقاط صدام، وهي اليوم تتحرك في حماية الطائرات الأمريكية، بينما الأخرى، أي "داعش"، سليلة القاعدة التي قاتلت الأمريكان في العراق، وبحسب المنطق الشعاراتي للمحور الإيراني، فإن الأولوية في هذه الحالة ينبغي أن تكون للقوى المناهضة للاستعمار بصرف النظر عن ممارساتها أو إيديولوجيتها، وهذا هو المنطق الذي يحتمي به المحور في حربه إلى جانب نظام بشار الأسد ضد الشعب السوري، إلا أن هذا المنطق من الصعب جدًا تشغيله في الحالة العراقية إلا بقدر رهيب من الدوغمائية التي لا يتورع عنها محازبو المحور الإيراني.

ولكن في عمق الأزمة، لا تزيد "داعش" عن كونها نتاجًا لمركب الاحتلال والحرمان والاستبداد والطائفية، أي نتاجًا لخيارات وممارسات الأحزاب الشيعية بالدرجة الأولى، حيث بقيت مدن السنة وحدها، تقريبًا، في مواجهة الاحتلال، وفي دفع فاتورته، والتكفير عن مرحلة صدام حسين، متعرضة لحملة استئصال طائفي تحت شعار "اجتثاث البعث" في الوقت الذي احتضنت فيه الأحزاب الشيعية البعثيين الشيعة السابقين وأعادت استيعابهم وتأهيلهم وتوظيفهم.

بالرغم من ذلك قاومت المدن السنية مساعي "الدولة الإسلامية" لاستغلال مظلوميتها والسيطرة عليها، ثم حاولت في مرحلة لاحقة، منع تلك المساعي مجددًا، بالاحتجاج السلمي على القوى الطائفية التي ورثت الاحتلال الأمريكي وتعمل اليوم لديه ولدى الاحتلال الإيراني. هذا الاحتجاج السلمي يتهمه محازبو إيران بالسعي إلى تقسيم العراق، مسقطين حقيقة أخرى، وهي أن الأحزاب الشيعية هي التي ناضلت في سبيل الفيدرالية التي رفضها السنة أولاً، ثم لجؤوا إليها تاليًا كحلٍّ وحيد رأوه ممكنًا للخلاص من الهيمنة الطائفية.

حين استحضار بعض حقائق الأزمة العراقية لا يبدو "الحشد الشعبي" مختلفًا عن "داعش" في شيء من جهة الطائفية والتوحّش، ولكنه يختلف من جهة أخرى وهي تبعيته لإيران وتلقيه الدعم من أمريكا، فمن هذه الجهة تبدو "داعش" أكثر تقدمية بمناهضتها للاستعمار ورفضها للهيمنة الأجنبية إن إقليمية أو دولية، وحينئذ فإن الدعوات لحرق الفلوجة متوسلة بإسقاط هذه الحقائق لا تزيد صاحبها إلا سقوطًا في الطائفية بالتأكيد، وفي العمالة، أيضًا، بحسب أدوات المحور الإيراني ذاتها في إسقاط الخصوم، إذ لا يختلف هذا "الحشد" عن "داعش" إلا في هويته الطائفية وتبعيته لإيران وتلقيه الدعم من أمريكا.
ولكن لماذا الفلوجة؟! لماذا هذه الدعوة الجريئة لحرق الفلوجة؟! 

شكّلت الفلوجة أيقونة المقاومة العراقية للاحتلال الأمريكي، وأيقونة المقاومة العربية والإسلامية في ذروة صعود الطغيان الأمريكي العالمي، وفي المقابل وجدت كل من إيران والأحزاب الشيعية العراقية مصلحتها إلى جانب الاحتلال الأمريكي، وبدأت ومنذ هذه اللحظة في وضع نفسها في مقابل الأمّة كلِّها، وسقطت حينئذ الشعارات التي تلفّع بها المحور الإيراني ولا سيما مع انحياز "حزب الله" إلى جانب الأحزاب الشيعية الداخلة إلى العراق في ذيل الجنود الأمريكان، ومنذ هذه اللحظة تكشّف استخدام شعار مناهضة الاستعمار لصالح مشروع (إيراني/ طائفي) خاص، مفارق للأمَّة، وقابل للتقاطع مع الاستعمار.

لكن ماذا لو أن المدن السنية لم تقاوم؟! ماذا لو لم تكن الفلوجة؟!

ما كان للخيانات أن تنكشف، ولا لحقائق المشروع الخاص أن تظهر، ولا لادعاء احتكار المقاومة أن يصطدم بالواقع المكذّب له، فالذين تسيّدوا مشهد المقاومة في العراق لم يكونوا أبدًا من أتباع إيران، ولم تكن مقاومتهم لتخدم تلك الدعاية التي أرادت تجسيد المقاومة والثورة في إيران وأذيالها، ولهذا كله استحقت منهم الفلوجة كل هذه الكراهية، واستدعت لنفسها كل هذا الانتقام.