بورتريه

طارق عزيز: نجم دبلوماسية العراق يدفن بعيدا عن وطنه- بورتريه

طارق عزيز - أرشيفية
دفن بصمت في تابوت ملفوف بالعلم العراقي في مدينة مأدبا الأردنية (30 كم جنوبي العاصمة عمان)، بعد أن صُلي عليه في كنيسة "العذراء الناصرية" للاتين في الصويفية غرب عمان.

في كلمتهما التأبينية، وصفه مساعدا الأمين العام للأمم المتحدة والمنسقان الإنسانيان للعراق سابقا، هانز فون سبونيك ودينس هاليداي، بأنه "كان رجل دولة حقيقيا في العديد من الأيام الصعبة في بلاده" وبأنه "كان صلبا"، و"على درجة عالية من المبدئية والقدرة على إدارة المهام"، وفقا لكلمتهما التي تفيض بمشاعر التقدير للرجل.

وافته المنية بعد اثني عشر عاما من المعاناة في السجون العراقية، وبات بمقدوره الآن أن يرتاح بسلام في رقدته الأخيرة.

وتلك سنوات عجاف قضاها الرجل مريضا ومحروما من المساعدة الطبية الكافية، ومعزولا عن العالم الخارجي من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة التي جاءت مع الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003.

لم تنفع المناشدات التي أطلقتها جهات عديدة في العالم من أجل معاملة  إنسانية لسياسي ورجل دولة، حتى إن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر الذي شارك عزيز في رئاسة مفاوضات جنيف عام 1991 حول العراق، رفض مناشدات دولية لدعم الدعوات التي تطالب بمعاملة لائقة للرجل، ولم يتصرف "كرجل دولة"، وفقا لتعبير سبونيك وهاليداي.

واختنق صوت بابا الفاتيكان ولاذ بالصمت أمام معاناة المسيحي الوحيد في السلطة.. العالم بأسره فضل البقاء صامتا على نحو مثير للشفقة.

طارق عزيز، المولود عام  1936 تحت اسم  ميخائيل يوحنا، في بلدة شمالي الموصل لأسرة كلدانية كاثوليكية، درس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة بغداد، ثم عمل صحفيا قبل أن ينضم إلى حزب "البعث العربي الاشتراكي".

شغل منصب وزير الخارجية ما بين عامي 1983 و1991، ونائب رئيس مجلس الوزراء بين عامي 1979 و2003، وكان مستشارا  قريبا جدا من الرئيس العراقي صدام حسين لعقود.

بدأت علاقتهما في الخمسينيات عندما كانا عضوين في "البعث" الذي كان محظورا في العراق قبل أن يحكم، وعاد ليُحظر مرة أخرى بعد الاحتلال الأمريكي.

وفي أغلب الأوقات، كان يلعب دور ممثل صدام حسين والحكومة العراقية في الاجتماعات والقمم الدبلوماسية العالمية والعربية.

في نيسان/ أبريل عام  1980، تعرض لمحاولة اغتيال على الباب الرئيس للجامعة المستنصرية حين ألقى شخص قنبلة يدوية على موكبه، واستطاع أفراد حمايته إنقاذه بسرعة، رغم أنه أصيب في يده بشظايا القنبلة وأصيب العديد من طلبة الجامعة والمتواجدين عند باب الجامعة بجروح وغطت الدماء قمصانهم البيضاء، الزي الموحد لطلبة الجامعة.

وبعد الحادث، حضر صدام حسين إلى الجامعة وألقى كلمة على الطلبة قال فيها: "نحن نرقص على أكتاف الموت".

كشف عزيز على نحو مبكر كذبة "أسلحة الدمار الشامل العراقية"، وفي عام 2002، وصف عمليات التفتيش على الأسلحة بـ "البدعة"، وقال إن ما أرادته الولايات المتحدة لم يكن "تغيير نظام" في العراق ولكن "تغيير المنطقة"، معللا  أسباب الحرب على العراق بأنها تعود لسببين: "النفط وموقفها من إسرائيل".

في شباط/ فبراير عام 2003، قابل عزيز البابا يوحنا بولس الثاني ومسؤولين آخرين في الفاتيكان للتعبير عن رغبة الحكومة العراقية في التعاون مع المجتمع الدولي.

وفي آذار/ مارس عام 2003 أشيع أن عزيز اغتيل عندما كان يحاول الوصول إلى إقليم كردستان ولكن سرعان ما كذبت تلك الشائعات.

وبعد سقوط بغداد واختفاء رموز القيادة، تم نهب منزل عزيز من قبل عراقيين، وما لبث أن سلم نفسه لقوات الاحتلال الأمريكية في نيسان/ أبريل عام 2003.

دافع عزيز في أول ظهور له في "محكمة الدجيل" بقوة عن الرئيس صدام ومتهمين آخرين، معتبرا صدام "رفيق دربه"، وأخاه غير الشقيق برزان التكريتي "صديق عمره".

وبدا عزيز الذي ارتدى لباس النوم (بيجاما) هزيلا، وظهرت على يده اليمنى آثار حقن (غذائية بعدما أضرب عن الطعام)، في حين شكا من تعرضه للتعذيب، مطالباً رئيس المحكمة بالتحقيق في ذلك.

 وقال عزيز في شهادته إن "تعرض أي رئيس دولة في أي بلد في العالم لمحاولة اغتيال مكشوفة علنية، سيجعل الدولة مجبرة على أن تتخذ إجراءات وتعتقل كل المسؤولين الذين شاركوا وحرضوا وقدموا المساعدة".

وأكد عزيز أن "كل الذين جرفت أراضيهم تم تعويضهم تعويضا مجزيا وأعطوا أراضي محلها وبإمكانكم أن تسألوا الأهالي عن ذلك"، مشيرا إلى أنه بحسب "القانون في العراق يحق للدولة استملاك الأراضي بشرط أن يكون هناك تعويض عادل". وأوضح أن "قانون الاستملاك كان موجودا منذ أيام الملك فيصل الأول وقبل استلام صدام حسين للحكم بعشرات السنين".

وفي ما عرف بمحكمة الأنفال وإخماد "التمرد الذي دعمته إيران" في عام 1991، نفى محامي عزيز لشبكة "سي أن أن" الأمريكية، أن يكون عزيز قد شهد ضد صدام، وطالب بأن تجرى محاكمته في بلد محايد.

وأصدرت المحكمة "الجنائية العليا" في العراق، في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2012 حكما بالإعدام شنقا حتى الموت بحقه في قضية "تصفية الأحزاب الدينية"، بعد أن أصدرت في أيار/ مايو 2011، حكما بالسجن المؤبد عليه في قضية "تصفية البارزانيين".

عانى عزيز من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وعدم انتظام دقات القلب. وبسبب الظروف الصعبة التي كان يعانيها في السجن، فقد طلب من رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي الإسراع في تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه، حتى يرتاح مما كان يكابده من المرض، كما نقل عن محاميه.

ولم تأت الراحة من المالكي أو ممن جاء بعده. كان الموت هو البلسم والعلاج، لكن أين سيسجى جثمان الرجل، وحجم الكراهية بات كبيرا جدا؟

ولم يكن ثمة ملجأ سوى أن يدفن الرجل بعيدا عن وطنه.

وأعلن الأردن موافقته على دفن عزيز على أراضيه بطلب من عائلة الفقيد، التي تقيم في الأردن منذ عام 2003.

ووافقت الحكومة العراقية على نقل الجثمان إلى الأردن، شرط ألا تقام له أي مراسم تشييع أو مظاهرات أو ترديد شعارات وهتافات من المطار إلى المقبرة المخصصة لدفنه، بعد توارد أنباء عن قيام مليشيات شيعية باختطاف جثمانه أثناء نقله للأردن.

وهكذا دفن بصمت، تماما كما طلبت حكومة حيدر العبادي..