مقالات مختارة

السقوط الأخلاقي لموسكو في سورية

1300x600
يوم ركّزت وسائل الإعلام الروسية على منظر أحد المتطرفين وهو يأكل كبد إنسان ميت في مقطع للفيديو (حتى أن بوتين نفسه عبّر في ذلك الحين عن سخطه واشمئزازه في مواجهة الحدث المدان بكل المقاييس)، أدركنا أن روسيا هي في طريقها إلى تغيير دورها في الوضع السوري من موقع المتحالف الداعم إلى موقع المشارك المنفذ. فالرئيس الروسي لم يسبق له أن عبّر عن مثل هذا الشعور وهو يشاهد ويتابع تقارير الاستخبارات الروسية، التي من المفروض أنها وضعته في صورة التفاصيل الدقيقة لوقائع مجازر النظام السوري في الحولة ومعرزاف وتلبيسة، وجرائمه الخاصة ببراميل البارود التي باتت جزءا من المألوف السوري، وهي براميل يعرف بوتين جيدا أنها توّزع الموت على الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، ولا تطاول المقاتلين الذين يمتلكون القدرة على متابعة وتحاشي غباء تلك البراميل وحقدها.

ولم يتوقف بوتين مطلقا، على الأقل عبر الإعلام، عند مناظر أطفال ونساء مجزرة بانياس ومجزرة الكيماوي في الغوطة. وهذا مؤداه أن توقفه عند مشهد بغيض مقيت لحالة شاذة ندينها جميعا حالة لا علاقة لها بالثورة السورية وقيمها، إنما كان ذلك ضمن إطار وضعية الانسجام والتضايف، بل التكامل المدروس مع استراتيجية النظام التي اعتمدها منذ اليوم لانطلاقة الثورة السلمية. وهي استراتيجية متمحورة حول فكرة الربط بين الثورة السورية والإرهاب، وهي الاستراتيجية نفسها التي اعتمدها النظام الإيراني في كل من العراق وسورية، حتى أن الرئيس روحاني -الذي راهنّا بعض الشيء على دوره الإصلاحي، من موقع حسن النيّة- خرج على العالم ليتباهى بأن نظامه هو الأقوى والأكفأ في مواجهة الإرهاب في المنطقة، وهو يعلم جيدا أن الإرهاب الذي يتحدث عنه مترسّخ متأصل في ذهنية وممارسات نظامه، وهو يتجسّد في السعي المستمر لتصفية الخصوم المحليين والإقليميين، أو المغرّدين خارج السرب سواء في العراق أم في لبنان أم في سورية. 

كما انه يعلم جيدا أن نظامه الأصولي المذهبي النزعة قد تمكّن بالتحالف والتنسيق الفاعل مع النظام البعثي "العلماني" السوري من دفع الأمور في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين نحو الفوضى العارمة، وذلك عبر تدبير التفجيرات والمذابح التي نفذتها قوى متباينة المشارب والعقائد والمزاعم، ولكنها كانت جميعها محكومة بقواعد اللعبة التنسيقية بين الحليفين: الأصولي المذهبي، والبعثي "العلماني".

لقد اصبح الإرهاب فزّاعة بالنسبة إلى الأنظمة الاستبدادية في المنطقة والعالم، فهو الدجاجة التي تبيض ذهبا. وهي فزّاعة تصنعها الأنظمة المعنية، وتروّج لها، وتمكّنها من الانتعاش والتمدد، ومن ثم تعلن نفسها مناهضة لها، ومستعدة لمحاربتها، مستغلة الأوضاع الإقليمية والدولية، لتضع العالم أمام بديلين سيئين: إما الأنظمة الاستبدادية الفاسدة الإفسادية، أو الإرهاب الظلامي المتوحش. ولم يكن لهذه الفزّاعة أن تصبح فاعلة هكذا، لولا قبول الرأي العام الغربي بواقعيتها، وخشيته من مآلاتها.

وفي ما يخص الحالة السورية نرى أن لهذا الأمر أسبابه وعوامله التي من بينها إخفاق المعارضة السورية بمختلف أجنحتها في ميدان التواصل مع الرأي العام المعني بمؤسساته ومفاصله المؤثرة، بخاصة في العامين الأولين من الثورة حين كانت الأجواء مهيأة للتفاعل إيجابا مع مطالب السوريين. بل انشغلت المعارضة المعنية بحساباتها الخاصة، وكان ذلك نتيجة تعاملها مع الوضعية بعقلية كسولة اتكالية، عقلية اعتمدت سلوكية انتظار تنفيذ الوعود العامة الضبابية التي كانت تتوالى من دول مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وذلك عوضا عن العمل الجاد من أجل بناء القدرات الذاتية، وتنظيمها في مختلف الميادين وعلى مختلف المستويات.

ولكن يبقى للتردّد الأميركي تأثيره الأكبر على صعيد عدم حسم الأمور لصالح الشعب السوري، مما اضعف قوى الثورة الميدانية، وأخرج المئات من الضباط القادة والأمراء، وعشرات الآلاف من ضباط الصف والجنود المنشقين خارج نطاق المعادلة، بل فتح الباب واسعا أمام المتشددين والإرهاب، الأمر الذي استفاد منه النظام ضمن إطار استراتيجيته العامة التي اعتمدها مع حليفيه الإيراني والروسي.
الإدارة الأميركية لم تعتمد الحزم المطلوب في تعاملها مع نظام بشار الأسد، الحزم الذي كان من شأنه أن يفعل الكثير. والتجارب السابقة مع هذا النظام تؤكد ذلك.

أما النهج وحيد الاتجاه الذي التزمته هذه الإدارة في تعاملها مع قضية الإرهاب في سورية فهو الآخر خدم النظام، واسبغ قسطا من المشروعية على مزاعم روسيا بخصوص مخاطر الإرهاب الإسلامي المتطرف. فمنذ اليوم الأول كان واضحا للجميع أن النهج المعني لن يعالج المشكلة في سورية باعتباره لا يعالج قضية الإرهاب بصورة متكاملة، وإنما كان يركز الجهود حول داعش – النتيجة، في حين أنه كان يتناسى أو يتجاهل أن النظام مصدر الإرهاب الداعشي وغيره. وكل ذلك تناغم أو تكامل بهذه الصورة أو تلك مع استراتيجية النظام وحلفائه.

القوات الروسية دخلت سورية بدعوة من رئيس فاقد للشرعية. وهي تمارس عدوانها على الشعب السوري عبر قصف مدنه وقراه، مرفقة بمؤازرتها الصريحة للنظام، ودعوة موسكو الصريحة بضرورة الإبقاء على الأسد.

ردود الأفعال العربية والدولية لم ترتق بعد إلى المستوى المطلوب من جهة الإدانة والدعوة الحازمة إلى ضرورة التوقف عن التدخل، وإنما تراوحت بين الشجب الخافت، والامتعاض، والدعوة إلى التفاهم، وإمكانية التنسيق بخصوص الإرهاب.

بشّار الأسد بوصفه عنوان مجموعة القرار في النظام هو أساس المشكلة. ولن تكون هناك أية إمكانية للحل من دون تجاوز هذه العقدة، وإبعادها عن العملية السياسية القادمة التي لا بد منها للوصول إلى الحل في سورية. ومن هنا نرى أن مهمة المبعوث الدولي دي ميستورا مسدودة الآفاق ضمن الأجواء الراهنة، وبناء على المعطيات المتوفرة حاليا.

أما الإصرار الروسي على دعم بشار بكل الأساليب، فهذا مؤداه حرب طويلة الأمد في سورية، بل في المنطقة بأسرها، حرب ستؤدي إلى تغييرات في الجغرافيا السياسية، وانزياحات سكانية كبرى، وهي تطورات ستكون لها، في حال حدوثها، تبعات جسيمة على المستويين الإقليمي والدولي.



(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)