كتاب عربي 21

على هامش الانتخابات الإسبانية: إنهم يقتلون "الآباء"

1300x600
زغرودة في ميدان التحرير وشهب نارية ابتهاجا بانتصار "ثورة الشباب" وبانتهاء عهد الظلم والفساد والاستبداد. هي إذن ثورة شباب عربي ألهم لأول مرة في تاريخه الحديث أقرانه بالدول الديمقراطية، فخرج مواطنون إسبان في مقتبل العمر وانتظموا في حركة أسموها حركة 15 ماي وتظاهروا بباب الشمس، احتجاجا على السياسات الحكومية المغيبة للعدالة الاجتماعية والمؤيدة لنهج سياسة تقشف قاسية في مواجهة أزمة اقتصادية خانقة أوصلت الحزب الشعبي لرئاسة الحكومة على أنقاض حزب اشتراكي أنهكته ثلاث ولايات متتالية. "باب الشمس" الإسباني غير اسمه يومها إلى "ميدان التحرير" تيمنا ب"ربيع عربي"، ومن هناك بدأت الحكاية..

بينما كان رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي يواصل حملته الانتخابية  قبل  أيام قليلة من الاقتراع الذي جرت أطواره يوم الأحد الماضي، تلقى لكمة قوية احمرت معها وجنته من قبضة شاب لم يتعد السابعة عشر من عمره. وعندما اعتقل الشاب  لم يخف سعادته بما فعله، مؤكدا أنه سيعيد الكرة متى سمحت له الفرصة بذلك. لم تكن تلك الضربة الأخيرة التي تلقاها راخوي بل جاءت نتائج الانتخابات التشريعية الإسبانية لتؤكد عدم رضا الناخبين الإسبان على حصيلته الحكومية التي تولاها في ظرف صعب ميزته أزمة اقتصادية خانقة وفضائح فساد لم تستثنه شخصيا، بل وصلت إلى العائلة الملكية في شخص ابنة الملك خوان كارلوس الذي تنازل عن العرش لابنة فيليب السادس إنقاذا للملكية وصونا لشعبيتها.

في المحصلة النهائية، حل الحزب الشعبي لماريانو راخوي في الصدارة بتحقيقه 123 مقعدا في أسوأ نتيجة انتخابية لحزب فائز بالانتخابات في إسبانيا منذ التحول الديمقراطي في العام 1982. وفي الرتبة الثانية حل الحزب العمالي الاشتراكي محققا 90 مقعدا في أسوأ نتيجة انتخابية له منذ نفس التاريخ.

وحدهما حزبا بوديموس (نحن قادمون) وسيودادانوس (المواطنون) حققا اختراقا تاريخيا للنظام السياسي القديم المعتمد على الثنائية القطبية معلنين عن قيام نظام جديد أساسه تعدد الأقطاب. فاز الأول ب69 مقعدا مقابل 40 للثاني بما مجموعه تسعة ملايين صوت للحزبين بعد أن فقد الحزب الشعبي أكثر من 3.5 مليون صوات مقابل 1.5 مليون فقدها الاشتراكيون بالمقارنة مع آخر انتخابات تشريعية.

ليس مهما بالنسبة إلينا ما آلت إليه النتائج كأرقام أو حتى ما أفرزته من وضع انتخابي يجعل التوفيق في تشكيل أغلبية برلمانية لليمين كما اليسار أمرا غاية في الصعوبة بالنظر إلى رفض التحالف الذي يواجهه الحزب الشعبي من الجميع، وأيضا عدم تجانس الرافضين في قضايا مصيرية ليس أقلها الموقف من مسألة انفصال كتالونيا، مما يجعل تحالفهم لتشكيل حكومة مستقرة أمرا بعيد المنال. ما يهمنا والبلدان العربية تستعد للاحتفال بذكرى "الربيع العربي" هو كيف أزهر هذا الربيع في أوربا مع فوز حزب سيريزا اليوناني وزعيمة اليكسيس تسيبيراس برئاسة الحكومة قبل أشهر، تلاه فوز تحالف اليسار بالبرتغال، واليوم يتأكد المد الشبابي بالنتائج التي حققها بوديموس وسيودادانوس بإسبانيا دون إغفال الزعامة الشابة للحزب العمالي الاشتراكي رغم تراجع نتائجه، في وقت تحول عندنا خريفا مستداما. إسبانيا للتذكير فقط خرجت من حكم عسكري، بزعامة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، قوض كل أشكال التعبير السياسي ولم تعرف للديمقراطية طريقا إلا بداية ثمانينيات القرن الماضي.

يبلغ راخوي من العمر ستين سنة، أما بابلو ايغليسياس زعيم بوديموس فلا يتعدى عمره سبعا وثلاثين سنة مقابل ستة وثلاثين لألبرت ريفيرا زعيم سيودادانوس وثلاثة وأربعين عاما للزعيم الاشتراكي بيدرو سانشيز. وبالرغم من حداثة سن الثلاثة فهم يتمتعون بكاريزما وحضور إعلامي وسياسي أقوى من راخوي الذي قال عنهم ذات يوم أن عمرهم لا يتعدى "الربع ساعة". ولأنه مفتقد لذاك الحضور فقد أبى المشاركة في المناظرة التلفزيونية التي كانت ستجمع المرشحين الأربعة واستعاض عنها بالظهور في برنامج للطبخ. لهجة الخطاب السياسي تغيرت لدى هذه الطبقة السياسية الشابة التي صارت تسمي الأشياء بأسمائها من قبيل نعت بيدرو سانشير لراخوي بالإنسان "غير النزيه" في مناظرة سبق لهما التواجه فيها. واليوم يجد السياسي المخضرم نفسه بين مطرقة أبناء "الربع ساعة" اليساريين وسندان أبناء "الربع ساعة" اليمينيين بشكل لا يقف بينه وبين ولاية ثانية فقط بل يتجاوزها إلى تغيير كلي لأصول اللعبة السياسية الإسبانية ويؤشر للتحول الديمقراطي الثاني.

عودة إلى ميادين "الربيع العربي"..

زغاريد متواصلة بتونس ومصر وليبيا واليمن وأحلام رومانسية بغد جديد يصير فيها ل"شوية عيال"، وهي رديف أبنا "الربع ساعة" الإسبان، الكلمة الفصل في الصراع السياسي. هي ثورة الشباب يعلنها الكبير قبل الصغير.

في تونس تولى فؤاد لمبزع الرئاسة المؤقتة وجاء بعده المرزوقي ثم قائد السبسي ذو التسعين "خريفا".

وفي مصر تولى رئيس المجلس العسكري محمد حسين طنطاوي، ثم محمد مرسي وبعده عدلي منصور قبل أن يستقر الحكم عند قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي. أما رئاسة الوزراء فقد تناوب عليها كوادر من زمن المخلوع مبارك وشباب... من ثورة 1919.

وفي اليمن تولى نائب المخلوع عبد ربه منصور هادي قبل أن يعود المخلوع نفسه ليطل على المشهد من جديد ويقوض كل أمل في نجاح "الثورة" ومعه الحوثيون وقوى إقليمية كثيرة.

أما في ليبيا فقد غابت الدولة في عهد العقيد معمر القذافي ولا تزال كذلك إلى يوم الناس هذا.
وفي أغلب البلدان العربية المتبقية يواصل الأجداد قيادة السفينة وليس بينهم وبين القبر غير شهقة الخلاص من الدنيا الفانية.

أما من كانوا يقدمون على أنهم "أيقونات" الحراك الشبابي فقد كان أقصى آمالهم دعوة إلى برنامج تلفزيوني أو جلوس إلى جنب "زعماء" الأحزاب التقليدية بل انتهى المطاف بشباب الأمة إلى التحول إلى مجرد خلفية لسيلفي الزعيم الملهم عقب كل مؤتمر أو تجمع خطابي. ففي الوقت الذي تحول فيه بابلو ايغليسياس الإسباني إلى نجم في بلاطوهات القنوات التلفزيونية والإذاعية واستثمر ذلك لتمرير خطابات حركة 15 ماي التي تحولت إلى حزب تأسس في العام 2014 ليتحول بعد أقل من سنتين إلى ثالث قوة حزبية بالبلد، كان شباب الحراك منشغلين بتأسيس عشرات الائتلافات "الثورية" وبالتبشير بالزعماء الخالدين قبل أن يتحولوا حطبا في الحملات الانتخابية لا غير. 

في المغرب، ابتدع مهندسو الخريطة الانتخابية قائمة شبابية وطنية أساسا لريع سياسي يضمن به ثلاثون من شباب الأحزاب مقاعد برلمانية كما حال النساء ليصبح البرلمان نظير خرقة بالية مرقعة بالشكل الذي أثر ولا يزال على انسجام التشكيلة الحكومية المسيرة للشأن العام. غير ذلك لم يجد الشباب العربي غير وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة تنفيس "سلبية" يفرغ فيها كبته السياسي والمجتمعي هاشتاغات ووسومات وسخرية غير مجدية. أما من بقي فيهم قابضا على الجمر فالسجون النظامية كانت في الاستقبال أو صفوف تنظيم الدولة الإسلامية وبقية التنظيمات المسلحة.
 
هكذا انتهى المطاف بالحراك الشبابي العربي والسبب غياب رؤية استشرافية وضعف تأطير وانعدام ممارسة سياسية صحية تقبل بالتداول السلمي على السلطة وأيضا بتداول الأجيال على القيادة الحزبية. فالأحزاب والقيادات الشائخة ما كانت لتسمح لزعمات شابة أن تأخذ مكانها في طابور الانتظار السياسي الطويل الذي أفرزته عقود من الحكم الفردي الاستبدادي. وكان الأمل معقودا في أن يكون الحراك الشبابي منطلقا عمليا ل"قتل الآباء" السياسيين وإفراز نخبة جديدة، لكنه الفشل ظل الثابت في كل التحولات التي عرفتها المنطقة ولا تزال.

في إسبانيا ركز ماريانو راخوي على الأحد عشر مليون ناخب من الذين تفوق أعمارهم الستين عاما، ووفق في البقاء فاعلا أساسيا في معادلة الحكم. لكن بيدرو سانشيز وبابلو ايغليسياس والبرت ريفيرا أظهروا أن الكلمة الفصل تبقى للشباب ولتجديد الدماء اليوم قبل الغد. ومثلهم أظهر اليكسيس تسيبيراس أن من هم في سن الأربعين ونهاية الثلاثين قادرون على الحكم وفي أصعب ظروف الأزمة الاقتصادية بفكر يساري جذري ومتجدد في زمن ظن فيه الجميع أن اليسار انتهى إلى غير عودة. أما في وطننا العربي فلا يشغلنا في سن الأربعين غير التفكير في أزمة منتصف العمر وتسيير تبعات المراهقة المتأخرة عمريا وسياسيا على حد سواء.