قضايا وآراء

البورقيبية....باقية وتتمدد.. "الشعب يريد إسقاط النظام" (2)؟

1300x600
 لا شك في أن الثورات تختزل مطالبها أو فلسفتها في جملة من الشعارات التي تكون لها قدرات تعبوية وتحريضية فعالة في لحظة تاريخية ما، ولا شك في أن الثورة التونسية قد عبّرت عن نفسها في صياغات شعاراتية كثيرة لعل أشهرها  هو شعار"الشعب يريد إسقاط النظام". ونحن نزعم أنه يمكننا أن نقرأ الثورة التونسية -بل الثورات العربية كلها- انطلاقا من تتبع النتائج الواقعية لهذا الشعار من جهة انتصاراته وانكساراته الحقيقية منها أو المتخيلة.

بصرف النظر عن اختلافاتنا في توصيف"الحدث الجلل" التونسي – ما بين ثورة أو انتفاضة أو هبة شعبية، وبصرف النظر عن مدى إيماننا بمنطق المؤامرة والتدخل الخارجي في الثورات العربية بدءا من الثورة التونسية، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنّ 14 جانفي 2011 مثّل حدثا مفصليا في التاريخ العربي، وذلك بما دشنه من انكسارات بنيوية عميقة في بنى التسلط التقليدية وفي آليات إنتاجها للمعنى، وفي منطق توزيعها للثروات المادية والرمزية، وكذلك بما أحدثه من رجّات قوية في جسد الدولة-الأمة وفي مكوّنات حقلها السياسي القانوني –خاصة مع تنامي الخطر الإرهابي واستراتيجيات تقسيم المقسم وتجزئة المجزّأ-.

كان مطلب إسقاط النظام هو اللحظة  "السالبة" في مسار ثوري معقّد –لأنها كانت لحظة صدامية عنفية تهدم السائد، ولا تطرح بديلها المفهومي أو المؤسسي في صياغات واضحة ومقبولة من الذين لم يشاركوا في الحدث الثوري-، لذلك كان ينبغي بعد هروب المخلوع  إلى الخارج في 14 جانفي 2011 أن يُفكر الفاعلون الجماعيون الأساسيون في كيفية الانتقال إلى اللحظة الثورية "الموجبة"، أي كان عليهم أن يبحثوا"توافقيا" على كيفية الخروج من منطق الرفض الراديكالي وتحويله إلى سياسات عقلانية لإدارة المجتمع وتحقيق استحقاقات الثورة.

 لأسباب يطول شرحها، وانطلاقا من توازنات محلية وإقليمية ودولية معقّدة، اختارت النخب التونسية التي أشرفت على "المسار الانتقالي" منطق"استمرارية الدولة"، واختارت تبعا لذلك أن تدير مطلب" إسقاط النظام" بعيدا عن المنطق الثوري التقليدي وما يعنيه من قطيعة عنيفة وجذرية مع "النظام" ورموزه ومؤسساته وقوانينه. وقد طغى على الفترة الأولى التي أعقبت الثورة خطاب مُعاد للنظام السابق، ولكنها معاداة "خطابية" بالأساس، وسرعان ما تم الانقلاب حتى على هذا البعد الخطابي عندما اقتضت"استمرارية الدولة" التطبيع مع رموز النظام السابق وحماية مصالحهم المادية والرمزية .

لفهم المآلات الواقعية لشعار"إسقاط النظام"  بعد الثورة وما استقر عليه الأمر الآن من عودة المنظومة القديمة إلى الحكم، بعد التعديل الجزئي الذي طرأ على نمط شرعيتها وبعد التوسيع الجزئي والمحدود لقاعدتها الزبونية والجهوية، قد يكون من المهم أن نحسم في مسألة العلاقة بين نظام 7 نوفمبر وبين البورقيبية وذلك بعد الإجابة على الأسئلة التالية: 

1- هل كان النظام المقصود بمطلب "إسقاطه" هو نظام الرئيس المخلوع فقط، أم  كان أيضا تلك الفلسفة/الممارسة السياسية التي هيمنت على الجمهورية الأولى بما فيها الفترة البورقيبية، أي تلك الفلسفة/الممارسة التي يختزلها ثالوث الزعيم-الحزب-الوطن؟

2- هل يمكننا أن نتحدث عن نهاية الجمهورية الأولى مع انقلاب 7 نوفمبر، أم يمكننا فقط أن نتحدث عن هذا الانقلاب باعتباره لحظة ثانية في تلك الجمهورية الأولى، رغم بعض الاختلافات التفصيلية التي لا تغير شيئا في العلاقة الاشتقاقية بين النظام الدستوري والنظام التجمعي-أي في كون النظام النوفمبري هو مشتق من مشتقات البورقيبية، وليس نظاما خارجا عنها-؟

3- إلى أي حد انحرف بن علي ونظامه عن "الميراث "السياسي البورقيبي، أي كيف يمكننا فهم البنية الاستبدادية التي قامت الثورةُ ضدها، من دون البحث عن جذورها في بنية السلطة البورقيبية (من مثل ثلاثية الزعيم-الحزب-الوطن، عبادة الشخصية، اليعقوبية المتطرف، الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي، الأمة التونسية، الذكاء التونسي، حقوق المرأة، محاربة الإسلام السياسي وكل معارضة وطنية علمانية، مصادرة المجال العام، التنمية الجهوية اللامتكافئة، الطبيعة الريعية للاقتصاد والمنطق الزبوني للسلطة، الانحياز للمعسكر الغربي، التوجه الفرنكفوني، هيمنة الدولة على الخطاب الديني وتشجيع إسلام الزوايا، استلحاق النخب لأداء دور الحراسة الأيديولوجية للنواة الصلبة للنظام، التداخل بين الحزب والدولة، منطق الولاء قبل الكفاءة...إلخ)؟ 

ولعل السؤال الذي يمكن أن يختزل كل الأسئلة حول العلاقة الإشكالية بين "صانع تغيير"-أي صانع انقلاب 7 نوفمبر 1987- ومهندس الجمهورية الأولى الزعيم الحبيب بورقيبة هو السؤال التالي: هل كان انقلاب بن علي على بورقيبة أم على البورقيبية، أي هل كانت فترة الرئيس المخلوع بن علي انحرافا عن البورقيبية أم  استمرارا لها ودفعا بتناقضاتها الذاتية وبمنطقها المأزوم إلى نهاياته المنطقية؟ ولا شك في أنّ طبيعة الإجابة على هذا السؤال والنسق الحجاجي الذي تندرج فيه سيحددان موقفنا من العودة  المتسارعة للبورقيبية إلى واجهة المشهد العا، خاصة بعد فوز نداء تونس في الانتخابات الفارطة.

أما الإجابة على هذه الأسئلة، فإنها لن تكون موضوعية إلا إذا ما حاولنا تجاوز منطق الأمثلة L’Idéalisation  أو الشيطنة  Diabolisation للزعيم  الحبيب بورقيبة بحيث ننزّل تجربته في إطارها التاريخي، ونقرؤها بعيدا عن رغباتنا وانحيازاتنا الأيديولوجية. ونحن  نستطيع أن ننطلق من جملة من المعطيات التي قد تُوضّح العلاقة بين "نظام" بن علي الذي قامت عليه الثورة والنظام البورقيبي الذي أصبح  يُمثّل بعد انتخابات 2014 الخطابَ المرجعي الأهم عند النخب السياسية والفكرية يمينا ويسارا ووسطا:

- نظام بن علي غيّر اسم الحزب الحاكم بعد 1988 ولكنه لم يغير وظيفته ولا تركيبته الميتا-أيديولوجية الموضوعة في خدمة النواة الصلبة للنظام –وهي نواة ذات بنية جهوية معلومة-، وهو ما يعني أن بن علي –ونظامه- كانا مجرد لحظة ثانية في بنية تسلطية واحدة.  

- نظام بن علي لم يُغير قواعد توزيع الثروات المادية والرمزية المرتبطة بالاقتصاد الريعي الذي تسيطر فيه الدولة على آليات إنتاج الثروة وتوزيعها، وبالتالي لم يُغير شيئا يُذكر في البنية الجهوية والزبونية للسلطة.

- نظام بن علي حارب الإسلاميين على الأساس نفسه الذي حاربهم عليه بورقيبة-أي حماية النمط المجتمعي- واستعان بالمنتمين إلى "العائلة الديمقراطية" في "المحرقة" التي قادتها أجهزة القمع الأمني -بتواطؤ مفضوح من أغلب أجهزة القمع الأيديولوجي في الإعلام والجامعة والثقافة- وذلك للتخلص من خصومه النهضويين.
ها 
- واصل نظام بن علي السياسات الاقتصادية الليبرالية نفسها، وكرّس تبعية الدولة التونسية للمانحين الدوليين (صندوق النقد والبنك الدولي وغيرهما) وزاد في هيمنة الوكلاء المحليين للمصالح الأجنبية-الكومبرادور-  مما قوّض أي إمكانية  لبناء أي مشروع وطني قادر على تجاوز البنية الاستعارية لخطاب"التغيير" و"الاستقلال" وتحويلهما إلى قوة لبناء سيادة وطنية حقيقية. 

- كرّس نظام بن علي الدولة "الكمالية" التي أسسها بورقيبة، وهي نظام سياسي تتماهى فيه الأمة مع الدولة القُطرية، كما كرّس نظام بن علي الأساس الفلسفي للسلطة، ألا وهو اللائكية الفرنسية ومنطقها في إدارة المجال العام، الأمر الذي عمّق التبعية الثقافية –للفرنكفونية – وجعل من كل محاولات "التعريب" مجرد لغو لا محصول تحته.

- بدأ نظام بن علي بداية إصلاحية وكان زعيمه يُقدم نفسه في إطار"فريق" يحمل مشروعا جماعيا، وكان الإعلام يتحدث في الأيام الأولى لانقلاب 7 نوفمبر عن "فريق" ولكنه سرعان ما تحول إلى الحديث عن "صانع التغيير" و"حامي الحمى والدين" وغير ذلك من الألقاب التشريفية التي عكست نزوع بن علي إلى الزعامة على الطراز الكمالي-البورقيبي.

- كان بن علي قد أقام شرعية حكمه على أساس أنه "وريث" البورقيبية والحركة الإصلاحية، وقد اعتمد على الميراث البورقيبي في مواجهة "الظلامية والرجعية" التي تم تصويرها باعتبارها تهديدا جديا  للحريات الأساسية، وباعتبارها أيضا ردّة نسقية عن أهم مكاسب البورقيبية خاصة في مجال حقوق المرأة. وكان هذا الطرح الثقافوي للصراع طريقا ملكيا للحصول على "تفويض" صريح أو ضمني من "العائلة الديمقراطية" قصد القضاء على الخطر "الإسلامي"، ممثلا آنذاك في حركة النهضة- وهو ما نجح فيه بصورة كبيرة، ولكنه كان سببا في  قتل الحياة السياسية ومصادرة المجال العام لمدة تزيد عن 23 سنة.

إنّ هذه التشابهات الوظيفية والبنيوية بين النظام البورقيبي الدستوري والنظام النوفمبري التجمعي، وهي تشابهات يؤكدها الاستقراء الموضوعي لكلا المرحلتين من تاريخ تونس، تجعل من بن علي الابن الشرعي لبورقيبة وتجعل من نظامه لحظة ثانية في النظام نفسه. بحيث يمكننا أن نقول بأنّ 7 نوفمبر كانت محاولة لإنقاذ البورقيبية عبر التخلي عن بورقيبة، كما يمكننا أن نقول بأن 14 جانفي 2011 كانت اللحظة التي بلغ فيها هذا النظام الدستوري-التجمعي نهايته الطبيعية، وهي اللحظة التي فقدت فيها  الجمهورية الأولى مبررات وجودها، عندما فقدت القدرة على التعديل الذاتي وعلى تجاوز أزماتها الدورية وتناقضاتها البنيوية العميقة. 

رغم كل ما تقدم، فإن البورقيبية استطاعت أن تعود إلى واجهة المشهد السياسي والثقافي والإعلامي، وهي عودة تدفعنا في نهاية هذا الجزء الثاني من المقال إلى التساؤل عن الأسباب التي دفعت بأهم الفاعلين السياسيين (بمن فيهم النهضويون) إلى محاولة استعادة البورقيبية، رغم حديث الجميع عن "جمهورية ثانية" وعن ضرورة القطع مع تراث الاستبداد والزعامة وشخصنة السلطة، وغير ذلك من آفات الاستبداد. إنها "مفارقة" PARADOXE تأسيسية  سنحاول في الجزء الثالث والأخير من هذه المقالات المخصصة للبورقيبية أن نتدبرها عبر قراءة تحليلية نقدية في  خطابات "البورقيبية المريضة" والبراغماتية (ممثلة في الرئيس قائد السبسي وحركة نداء تونس)، و"البورقيبية الهووية" الصدامية (ممثلةً في محسن مرزوق وحركة مشروع تونس  من جهة أولى، وفي الجبهة الشعبية من جهة ثانية)، و"البورقيبية الاستيهامية (ممثلة في حركة النهضة ومنطق "التوافق")..