قضايا وآراء

الطاقة والزمن.. من فلسفة الوجود إلى فيزياء الثورات

1300x600
منذ بدء الخليقة لم يكل الإنسان عن فهم ذاته والبحث عن أسرار وجوده وتطوره ووضع نظريات وأيديولوجيات منها ما هو متوافق والبعض منها متعارض، وفي أحيان كثيرة متصادم مع بعضها البعض.

ومن واجبنا، بل من مسؤوليتنا نحن العلماء والباحثين كفصيل في هذا المعترك الإنساني محاولة فهم الوجود وإدراك الواقع من خلال محاولة النظر إلى التغيرات التي تموج بها أمتنا العربية في الفترة الأخيرة بعين من العلم وبمرجعية ما أرسله لنا خالق الكون من قرآن كريم.  

وبالنظر إلى الآية الكريمة في سورة فصلت: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأرض اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا".  

نجد أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام، ولكن هذه الأقوات للإنسان وسائر مخلوقات الأرض لا تنبت جزافا، فلابد من عوامل مساعدة لها من خارج الأرض، وتلك العوامل تتجلى في سورة الأنعام: "(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)".

فالماء المنزل من السماء الذي لا تحيا الأرض بدونه، ولكن هذه العملية لن تتم إلا بمصدر للطاقة اللازمة للبناء الضوئي للنبات، هذا مما أُوحى ربنا للسماء الأولى أمرها بجود الشمس بها وحمل بخار الماء أو السحب وتسييرها بطاقة الرياح من مكان إلى آخر. فلو تخيلنا أن شمسنا قد اختفت أو انكمشت، كما هو متوقع لها، وفقدنا مصدرها للطاقة فلن يستمر أي نوع من الحياة على الأرض أكثر من سويعات قليلة هي ساعات الاحتضار.

إذا فسر الوجود لأي نوع من الحياة على الأرض هو وجود طاقة الشمس والتي هي المسؤولة عن تحلية مياه البحار والمحيطات وتسييرها لتحيا بها الأرض بعد موتها.

وبالنظر الدقيق إلى كل ما يستهلكه الإنسان اليوم من طاقة كيمائية في جسمه من خلال غذائه فإن مصدرها الأساسي والوحيد هو الشمس، وكل ما يستهلكه من بترول أو غاز طبيعي أو فحم فهو طاقة شمسية خُزنت في صور مختلفة وحفظت في الأرض ليبني بها الإنسان هرم تطوره في العصر الحديث، ولعل هذا جزء مما قدره الله في الأرض من أقوات كما تذكر الآية الكريمة.

ويقفز هنا إلى العقل سؤال عن كيف تكون الطاقة هي سر الوجود؟ لكي نعرف وجود الإنسان من هذه الوجهة ببساطة، فبالنظر إلى معنى حياة الإنسان ألا وهي قدرة خلايا جسمه على تمثيل الطاقة في صورتها الغذائية والموت أو الخروج من الحياة هو توقف هذه الخلايا عن تمثيل تلك الطاقة.  ولكن ما علاقة ذلك بما يعيشه الإنسان من زمن؟ والإجابة تأتي أن وجود الإنسان يعني إحساسه بالزمن والموت هو خروجه من هذا الزمن إلى أبعاد زمنية أخرى مثل حالة النوم، فهو خروج مؤقت لإدراك الإنسان من البعد الزمني المحسوس إلى بعد زمن آخر غير محسوس لا يعلمه إلا الله.

وبالنظرة الأعم نرى أن الخالق سبحانه هو الذي جعل مصدر طاقة الوجود هو نفس المصدر الأساسي للقياس الزمني سواء كان هذا القياس شمسي أو قمري، فالأصل هو الشمس. وبالتالي فالارتباط بين الطاقة والزمن ارتباط وثيق ليس على مستوى أنفسنا فحسب، ولكن على مستوى الكون كله ومن هنا كانت رسالة الخالق لمخلوقاته.

وبالعودة إلى مفهوم الطاقة البسيط، وهو القدرة على بذل الشغل في أي زمن كان ولكن بما أن الطاقة والزمن مرتبطين فلابد أن لا ينسلخ تأثير الزمن على الطاقة، ومن هنا ينبع مفهوم القدرة، حيث تتعاظم القدرة عندما تبذل نفس الطاقة في زمن أقل وبالتالي يكون الانجاز أعظم.

وبمحاولة لإدراك مفهوم فيزياء الثورات من خلال هذا المنظور نجد  أنه مهما صرخت الشعوب وتجمهرت فرادى وأشتاتا لمدد طويلة كانت طاقتها مشتتة وقدرتها على التغيير ضعيفة. فكم من وقفات احتجاجية واعتصامات ومسيرات ومظاهرات، ولكنها كانت على متوسط  أزمان طويلة، لذا كانت قدرتها على التغيير ضعيفة. ولكن عندما تجمع هذه الشعوب طاقتها محصنةً نفسها بدرع موروثها الحضاري وإيمانها بعدالة قضيتها، فإنها هي نفسها وفي فترة زمنية القصيرة تتعاظم فيها قدرتها الجارفة على خلع أعتى الديكتاتوريات وكسر أجرم الانقلابات.

ويبزغ هنا سؤال هل تحتاج الشعوب إلى قوة عسكرية لخلع تلك الديكتاتوريات؟ والإجابة بالطبع لا، فبما أن الحرية والكرامة هي من الأرزاق وهي تشبه الأقوات التي تنبت بها الأرض، ولكي نغرس الحرية والكرامة في نفوس الشعوب فهذا يحتاج من يحترف زراعة الوعي ورعايته في وجدان الشعوب.

هذا الوعي الذي سيؤتي ثماره بأدوات وثورات سلمية وفاعلة متبنية أدوات مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر مقاطعة منتجات الدولة أو الحكومة العسكرية، عصيان أوامر الحكومة حتى الوصول إلى مرحلة العصيان المدني العام، ومن ثم الثورة الشاملة، ولكن لابد أن تبذل طاقة العصيان خلال فترة زمنية قصيرة جدا حتى تتعاظم قدراتها وتؤتي ثمارها بخلع تلك الدكتاتورية المجرمة.

إذا فرسالة السماء في ترابط الطاقة مع الزمن جاء ليعمم مفهوم الأقوات ليخرجه من مجرد طعام يأكله الإنسان والحيوان إلى أن مفهوم الحرية والاستقرار هي أيضا من الأقوات ومن متطلبات الوجود.

ولو أن الإنسان العربي (حكاما ومحكومين) أدركوا هذا المفهوم وطبعه الحاكم في ضميره وأضافه المحكوم إلى عقيدته لأدرك الحكام أن حجب الحرية عن شعوبهم هي محاولة لمنع جزء من رزق الخالق ولْعَلم المحكوم أنه يتنازل عن جزء مهم من رزق الله له.

ولكن موجة الثورات العربية أثبتت أن إدراك الشعوب لهذا الرزق في ضميرها أوضح وأسرع من إدراك الحكام الذين يدفعون دائما ثمن هذا الغباء الإدراكي غاليا. وسيظل هؤلاء الحكام سابحين في فضاء هذا الغباء الإدراكي حتى تجذبهم الشعوب من على مداراتهم، التي ظنوا أنها دانت لهم، ساحقة إياهم وملقية إياهم في أسود صفحات التاريخ، كما تسحق الثقوب السوداء وأكبر الكواكب وأعتى النجوم.   

ولننتقل من مفهوم فيزياء ثورة التغيير وقدرة الشعوب على سحق الفساد إلى فيزياء ثورة البناء وقدرة الشعوب على تعبيد طريق المستقبل وبناء منظومة التقدم. فكم من شعوب تملك من الطاقة الكثير في صورها المتباينة من بترول وشباب وجغرافيا وتاريخ، ولكن ما أضعف قدرتها على تمثيل هذه الطاقة لتعبيد طريق رقيها، إما لخلل في أسلوب التمثيل أو لطول زمن التخطيط والبناء، مما يجعل قدرتها على التقدم تزحف كالسلحفاة، وربما تفقد قدرتها على تمثيل الطاقة فتموت خارجةً من الزمن وتاريخ الأمم.

وكما كان مقدرا للثورات على مر التاريخ أن تنجح عندما استغلت منظومة الطاقة - الزمن لتعظيم قدرتها فإن نجاح الشعوب على إدراك ما فاتها يتوقف بالأساس على كيفية إدارة تمثيل ما حباها لله من طاقات بصورة مثلى، وفي أقل فترة زمنية قبل أن يفوت الأوان وتتضاعف صعوبة استرجاع ما فقد.

إن استفاقة النموذجين الياباني والألماني بعد الحرب العالمية الثانية ليس ببعيد عن التمثيل الأمثل لمفهوم الطاقة- الزمن في بناء الأمم. ولن يستطيع الداني والقاسي أيضا إهمال تنامي معدلات التقدم وتعاظمها في كل من النموذج التركي والنموذج الجنوب شرق أسيوي. إنها شعوب أدركت فلسفة وجودها فتعاظمت قدراتها في إدارة ما حباها الله من طاقة لبناء منظومة مستقبلها بالطريقة المثلى في فترة زمنية قصيرة.

إن التقدم الذي أدركته تلك الشعوب ليس فقط لبناء تقدمها الحضاري، ولكن هذا التقدم لهو يصب بالأساس في دعم التحرر النماذج ودعم أمنها القومي واستقلالها الوطني.

إن الله سبحانه أرسل لنا الرسالة واضحة لبناء مستقبلنا والأخذ بكل أسباب الرزق واستغلال الأقوات بكل مفاهيمها المادية والمعنوية. إنها الفترة التاريخية الأوفر حظا لأمتنا لإدراك فلسفة وجودها وتعويض ما فاتها لتتبوأ بالفعل مكانتها التي وهبها الله، ولنحظى حقا بأن نكون جزءا من خير أمة أخرجت للناس.