مقالات مختارة

متحف "أبو عمار"

1300x600
عندما لوَّح ياسر عرفات بيده مودعا الأرض إلى مستشفى فرنسي، كان يودع، ويستودع، أهم وأطول صفحة في تاريخ النضال الفلسطيني، المتحف الذي أقيم له في رام الله الآن هو متحف «القضية» التي عمل في سبيلها مقاتلا، ودبلوماسيا، وسياسيا، ومنفيا، ومحاصَرا، وحاملا غصن زيتون ومسدسا إلى الأمم المتحدة، ومعزولا في «المقاطعة» في غرفتين تصوب عليهما مدافع شارون.

حارب ياسر عرفات إسرائيل، وحارب أمريكا، وحارب العرب وحاربوه، أنكر الكويت، إذ أنشأ «فتح»، و«حكم» لبنان، حسب تعبيره، الذي كان أول من فتح أبوابه للفلسطينيين، وقاتل الأردن، وصالح الجميع، كاد في البيت الأبيض يعانق إسحق رابين، ثم قدم التعازي فيه، وطلب مقابلة بنيامين نتنياهو، لا إسرائيل الفظة.

ما من مسيرة مشابهة لرحلة عرفات الطويلة إلى الشهادة، دهاء ومكر واحتضان وعناق وحروب، شجرة تحني غصونها في أي وقت، وجذع لا ينحني، و«الأشجار تموت واقفة»، كما في عنوان ديوان صديقه معين بسيسو، ينطوي متحف أبو عمار على نصف القضية الفلسطينية، والنصف الآخر شعبها المنفي من أرضه، المشرد في أراضي وبلدان الآخرين.

سار عرفات بين ألغام العرب وفوق ألغام إسرائيل، أرادته دول الصمود والتصدي قائمقاما عندها، وتهرّب من مصر إلى سوريا إلى العراق إلى ليبيا، أرادوا احتكار ولائه، وظل مثل الزئبق ينتقل من مكان إلى مكان، فلاح فلسطيني تعلم أن يسير بين الأثلام؛ لكي يحافظ على الزرع، ولم يعش أحد من مناضلي القضايا العالمية الحياة الشاقة التي عاشها، بدوي، طائرته في جيبه، وخيمته على ظهره، ولا يعرف أحد سواه أين يكون مضرب الليلة التالية.

كان يقاتل ويصالح بالسهولة نفسها، يناور على رفاقه وأصدقائه وخصومه وأعدائه؛ لأنه اقتنع بأن السياسة مناورة، كل شيء كان ممكنا ومسموحا ومبررا في الطريق إلى فلسطين، دعاني مرتين إلى مقابلته في الكويت، وفي المرتين اكتشفت أنه بعث خلفي ونسي، لكنه تصرف كأنه قد أمضى الوقت في انتظاري، لا عمل آخر لديه.

كان يُسمِع كل شخص الكلام الذي يعرف أنه يرضيه، ويذكرك بأمور صغيرة نسيتها، ويسألك عن أحوال أناس يعرف أنهم غالون عندك: المقاتل وقد أراد أن يكون ساحرا، متحف أبو عمار هو متحف القضية، رجل مضى وحيدا، وسار الشعب خلفه، يهتم بالأشياء الصغيرة والأشياء الكبيرة، يقبض على بيت المال؛ لمعرفته أنه حصانة الزعامة في العالم العربي، يعود إلى فلسطين من باب أوسلو المنخفض، باحثا عنها كدولة في أي مكان، والدولة اليوم بعيدة في توحش نتنياهو، وفي انقسام فلسطين، رحم الله موحدها.

الشرق الأوسط اللندنية