قضايا وآراء

الغرب بين النموذج والقدوة

محمود عبد الله عاكف
1300x600
1300x600
تعرفت على المفكر الإسلامي الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمه الله - في بدايات نشاط مركز الدراسات الحضارية أوائل عام 1988، وكان هو المسؤول عن تحرير محور الصراع العربي الإسرائيلي في تقرير الأمة الذي أصدره المركز للعامين الأول والثاني (1991/1990 و1992/1991). بعد ذلك أصبح مشرفا على المحور وعضو بهيئة مستشاري التقرير، وكان خلال تلك الفترة يعد المرحلة الأخيرة وبصدد الانتهاء من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. وحدثت في العام الثاني للتقرير أحداث مرج الزهور، حث قامت إسرائيل بإبعاد حوالي 400 شخص من قيادات حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينيين إلى منطقة مرج الزهور على الحدود الفلسطينية اللبنانية، وكان المتحدث باسمهم الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. وتناول الدكتور المسيري هذه القضية، وقام بتحليل فكرة الترانسفير المتجذرة في جوهر الأسطورة والعنف الصهيوني. كما أكد على أن علاقتها بالعلمانية الغربية هي علاقة أساسية من خلال تعاملها مع الإنسان كمادة تنقل من مكان إلى مكان آخر دون مراعاة لباقي الجوانب المكونة لهذا الإنسان.

وحول معاني ومصطلحات العلمانية الجزئية والشاملة والحداثة وما بعد الحداثة والتحيز وغيرها من أفكار وعلاقة هذه المصطلحات والأفكار بالدين والفكر الإسلامي؛ كانت تدور الكثير من المناقشات في لقاءات الهيئة الاستشارية للتقرير وفي ندوات المركز الدورية التي كان يشارك فيها الدكتور عبد الوهاب.

وكان - رحمه الله - في بدايات التحول إلى التوجه الإسلامي وقبل أن يتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وبالتالي كان البعض من هذه المناقشات التي تدور تحتد أحيانا، وخصوصا في وجود عدد من المفكرين الإسلاميين ، مثل الدكتور أحمد العسال والدكتور توفيق الشاوي والدكتور سيد دسوقي والمستشار طارق البشري والدكتور كمال أبو المجد والدكتور يوسف القرضاوي، وغيرهم من مستشاري المركز، وباحثي المركز، وممن كانوا يحضرون ندوات المركز الدورية، مثل المستشار مأمون الهضيبي والأستاذ مهدي عاكف والدكتور سيف عبد الفتاح والدكتور علي عبد الحليم والدكتور كمال المنوفي، رحم الله من توفي منهم وأطال في عمر من ينتظر وأمده بالصحة والعافية. وكانت هذه المناقشات غالبا ما تنتهي بتوضيح الرؤية الإسلامية تجاه كل هذه القضايا التي أثيرت خلال النقاش، وكنت ألاحظ تطورا في تفكير الدكتور المسيري رحمه الله.

ومن القضايا التي كان يتحدث عنها كثيرا وما زلت أتذكرها؛ هي قضية النماذج، فكان دائما يؤكد على استخدام هذا المصطلح. ومصطلح ومفهوم النموذج يشمل المعنى المادي والفكري المعنوي. فالجانب الأول يعني الشكل أو الصورة التي تتخذ معياراً للحكم على الأشياء الأخرى المماثلة له بالتوافق معها أو عدمه، ويعد الأساس في المقارنات التي يمكن من خلالها تقييم الأشياء. أما الجانب الفكري المجازي؛ فالنموذج يعني التصور الذي يعتمد عليه المرء في المقارنة بين الأشياء في ضوء ما تتصف به من سمات وخصائص تجعلها قريبة من ذلك التصور أو بعيدة عنه. والنماذج هي أدوات تحليليه استخدمها الدكتور المسيري وطورها على مدى مراحلة الفكرية المتتالية. وهناك أنواع مختلفة من النماذج، مثل النماذج الإدراكية والنماذج المعرفية، وأخرى تحليلية، وكذلك نماذج تفسيرية. ولكل نوع من هذه الأنواع للنماذج أقسام داخلية وسمات وطرق صياغة مختلفة؛ متعلق بمستوى العلمانية سواء الجزئية أو الشاملة. وكان التأكيد دائما على أن العلمانية بشقيها لا تتعامل مع الجوانب المختلفة، سواء كانت معرفية أو غير ذلك، إلا من خلال النموذج.

من هنا يتضح أن فكرة النموذج، سواء بمعناه المادي المعياري أو بمعناه الفكري التصوري، هي تقليد ضروري في الفلسفة العلمانية، ولا يمكن فهم الأشياء إلا من خلال النموذج، وذلك لأن مفهوم العلمانية برمته، وخصوصا المستوى الشامل منه، وهو الأكثر تطبيقا وتأثيرا في عالمنا المعاصر، يقوم في الأساس على أنماط وقوالب تاريخية محددة. وبالتالي، فهو يتعامل مع الأحداث التاريخية المختلفة من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها طبقا للنموذج المعتمد والمتعارف عليه. وليس التاريخية فقط، فإنه يستخدم الأنواع المختلفة من النماذج، كالنماذج التحليلية والتفسيرية، من أجل فهم الأنشطة الجارية والمتحركة، بل والتعامل معها. والعلمانية بمعناها الشامل - كما ذكرنا - لا تتعامل مع الغيبيات، بل تنكرها، وبالتالي لا تعترف بالأخلاق والجوانب الأخلاقية في حياة الإنسان. وإن الإنسان في هذه الفلسفة والمنظومة الحياتية ما هو إلا كيان مادي يتم التعامل معه من خلال القواعد والأطر المادية، كما في التجارب المعملية. والنجاح من هذا المنطلق يعتمد على تقديم نموذج أولي للأشياء المستهدفة يتم تجربتها في واقع الحياة، ويتم التعديل عليها للوصول للنموذج الأمثل، ومن ثم اعتماد النموذج وتعميمه في التطبيق.

والإدارات والنظم في الغرب والمجتمعات الغربية في عمومها، وخلال المئتي عام الأخيرة، واعتماده العلمانية الشاملة في مناحي حياته المختلفة، أصبح يتعامل داخليا وخارجيا من خلال هذه المفاهيم والأنماط. وهناك أمثلة عديدة من التاريخ خلال تلك الفترة تؤكد هذا التقدير. فأسلوب التاج البريطاني في احتلال الهند هو نفس النموذج الذي طُبق في استعمار مصر، علما بان البرتغال كانت قد وصلت إلى الهند أولا بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح. وكان النموذج المتبع هو التغلغل من خلال التجارة وشركة الهند الشرقية، وفي مصر من خلال التغلغل في مناحي الحياة التجارية والأنشطة المالية وإغراق مصر في الديون. ومن الأمثلة التي عايشناها؛ نجد نموذج إسقاط وتقسيم الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي (وهو أيضا ينتمي للفلسفة الغربية العلمانية)، فتمت البداية في بولندا، وكان النموذج نقابة تضامن 1980، وزيارة البابا يوحنا بوليس الثاني (البولندي الأصل) عام 1983، والتحول إلى الديمقراطية عام 1989. وكانت الإرهاصات المماثلة؛ تشجيع وتقوية مؤسسات المجتمع المدني في المجر وتشيكوسلوفاكيا، ثم توالت باقي دول أوروبا الشرقية وسقوط جدار وسور برلين ثم انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991.

وفي تقديري أن ما يطلق عليه بأحداث الربيع العربي لم تبدأ في كانون الأول/ ديسمبر 2010 أو كانون الثاني/ يناير 2011، ولكن قبل ذلك بسنوات.. في بدايات القرن الحادي والعشرين، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ودعوة الإدارة الأمريكية لنشر الديمقراطية والتغيير الشكلي في المنطقة العربية. وبدأت في مصر مع انتخابات 2005، وقبلها قليلا في تشجيع مؤسسات المجتمع المدني، سواء السياسية أو الحقوقية، وتلا ذلك في فلسطين ونجاح أبناء حماس بالأغلبية في المجلس التشريعي 2006، وبدأت دول أخرى تتحدث عن إعطاء مساحة من الحرية في سوريا وليبيا، ومبادرات سيف الإسلام، وحتى بعض دول الخليج وغيرها من دول المنطقة. وكان النموذج تونس، حيث قام البوعزيزي بإحراق نفسه، فكان الشعلة وسقط بن على، لكن لم يسقط نظامه. وقيل إن مصر ليست تونس، ولكن في أيام، وبدخول جماعة الأخوان المسلمين في المشهد ودعمها للأحداث، سقط حسنى مبارك، ولم يسقط نظامه. نفس النموذج تكرر في ليبيا وسقط القذافي، ثم معدلا في اليمن، وفي المغرب بتعديل أكثر، ولكنه توقف عند سوريا وكأنه يستعد لبناء نموذج جديد. وبدأت الردة وانعكاس الأحداث، فعاد النظام القديم في تونس ومصر، والفوضى في ليبيا، والمجاعة في اليمن، والدمار في سوريا. ونجد على الهامش نموذجا مشوها للدولة الإسلامية؛ حتى يفقد المسلمون الثقة في حلمهم ويرهب غير المسلمين.

قد يعتقد البعض أن هذا التحليل يعتمد نظرية المؤامرة، وهذا ليس صحيحا، فهو لا يعترف بها من الأساس. ولكن هي محاولة لفهم المصالح الخاصة بالقوى المختلفة عالميا؛ لأنني أعتقد أن ما يحرك هذه القوي هو مصالحها التي تدركها جيدا، وأننا في النهاية نعيش صراع المصالح المختلفة. ولكننا في مشهد اليوم حتى نفهمه؛ علينا أن نفهم أسبابه وتاريخه وأبعاده حتى الفلسفية منها. والمشهد الذي نراه في واقعنا العربي اليوم هو مشهد التقسيم. والأسباب إضعاف الأمة، وأن يكون البأس داخليا أشد. والتاريخ منذ المشهد السابق في بدايات القرن الماضي والتخطيط مستمر وبعد الحرب العالمية الثانية وحرب 48 تحول التخطيط إلى خطوات تنفيذية. أما الأبعاد، فلحماية إسرائيل، والأهم هزيمة الإسلام العقيدة الصحيحة، والتغلب عليه، والقضاء على أي تهديد من ناحيته، وذلك لأن الفكرة العلمانية، والشاملة منها، لا تقبل بوجود رؤية فلسفية أخرى لنمط الحياة. وإذا لم تستفق الأمة وأبناؤها، وتنصر الله بالعمل الصالح الصادق حتى ينصرهم ويثبت أقدامهم ويحقق لهم المخاض المنشود، فالنموذج لموجة التقسيم الجديد قادم لا محالة. فهل هو العراق أم سوريا أو اليمن أو ليبيا؟ وبعد النموذج، فالمتوقع أن يمتد خط استشراف المستقبل إلى العديد من دول المنطقة، خليجها وغربها وشرقها وتُركها. وهذه الموجة ليست كسابقتها تنتهي في أيام وشهور، بل المتوقع أن تمتد لسنوات، والله أعلم.

إن الغرب بمكوناته الثلاثة (شعوب- نخب عاقلة- نخب غير عاقلة)، وكل جزء أو مكون منها يفهم المصلحة بشكل مختلف. كما أن الفلسفة العلمانية السائدة فيه تقوم على التنميط والنمذجة، وهذا - كما ذكرت - يعود إلى رؤية هذه الفلسفة للإنسان والكائن البشري وتتعامل معه كمادة، مثل أن تنقله من مكان إلى آخر مثل تجربة الترانسفير. وما نراه في أفلام الخيال العلمي العديدة وتحول البشر إلى مجموعات من الإنسان النمطي يتم تحريكها من خلال أجهزة تحكم عن بعد؛ هي أيضا نماذج لما يراه الغرب وفلسفته السائدة لما يجب أن يكون عليه مستقبل العالم. وبالطبع الغرب يتصور أنه هو المؤهل لقيادة العالم، وأن نموذجه في الحياة هو الأصلح والأفضل للبشر، وأنه خلال تلك الأفلام يعيش البشر دون حروب أو صراعات، ويكون الجميع في وئام، ودائما ما نجد أن المناهضين لهذا النموذج يعيشون في كهوف وفي تخلف شديد.

كلمة أخيرة.. أذكر أنني كنت أتساءل مع الدكتور المسيري رحمه الله - عندما كان يستفيض في هذا الموضوع - وأقول له لقد قدّم المسلمون والحضارة الإسلامية قدوة لبني الإنسان للحياة على هذه الأرض، نجحت على مدى قرون من الزمن، ثم لأسباب عديدة؛ لا أقول انهارت بل خبت هذه الحضارة وتوارت لعدة عوامل، بعضها داخلي وداخل الأمة نفسها والآخر خارجي؛ نتيجة تدخل أعداء الأمة للقضاء عليها، لكنها لم تمت ولن تموت بإذن الله. بل يمكن القول إن البشرية اليوم في أمسّ الحاجة، وهي تبحث عمن يقدم لها الأسوة والقدوة -ولا أقول النموذج لأن النموذج يغفل الاختلافات بين البشر ويتعامل معهم كأنهم نمط واحد - التي يمكن أن تتبعه من أجل أن تعيش حياة مستقرة على سطح كوكب الأرض. فهل يمكن للمسلمين ويستطيعون الآن أن يعيدوا تكوين وممارسة هذه القدوة ويقدموها للبشرية مرة أخرى؟؟؟ والتساؤل ما زال قائما.

والله المستعان وهو ولي التوفيق.
التعليقات (0)