قضايا وآراء

قراءة في الموقف التركي من قرار ترامب

ماجد عزام
1300x600
1300x600

بدا الموقف التركي من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل الأقوى بين المواقف العربية والإسلامية، سواء رسمياً أو شعبياً سياسياً وإعلامياً. فقد كان سقف الموقف الرسمي مرتفعا مع لهجة عالية، وتراوح بين الإشارة الى أن القرار ينتهك القوانين والمواثيق الدولية العدل والواقع في المنطقة، والتأكيد بأن تركيا لن تعترف به أبداً مع التحذير من إشعال المنطقة، والدعوة لمؤتمر قمة لمنظمة التعاون الإسلامي للنقاش حول كيفية الرد العملي السياسي الديبلوماسي، ووضع خارطة طريق عملية من أجل الرد على القرار وجعله منعدم الأثر وبلا قيمة، وصولاً إلى إعلان القنصلية التركية فى القدس الشرقية سفارة في فلسطين، وذهاب وزير الخارجية التركي بنفسه إلى نيويورك سوية مع نظيره الفلسطينى لحضور جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لرفض الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، وللتأكيد على الحق الفلسطيني بالمدينة المقدسة.. الأمر نفسه حدث على الصعيد الشعبي، مع تظاهرات عمّت مختلف المدن التركية، بينما شهدت العاصمة الاقتصاديةالثقافية والشعبية، إسطنبول، 39 تظاهرة في يوم واحد (الجمعة 8 كانون الأول/ ديسمبر) مع مطالب بالمقاطعة، كما فتح باب التبرعات والمساعدة للشعب الفلسطيني، علما أن المنظمات الأهلية التركية نشطة جداً أصلاً في دعم صمود الفلسطينيين في القدس غزة وفلسطين بشكل عام، حتى أن السلطات الإسرائيلية تحدثت عن الدور التركي، ونشاط تلك الجمعيات كأحد أسباب الصمود والانتصار الفلسطيني في مواجهة إغلاق إسرائيل للحرم القدسي الشريف في شهر تموز/ يوليو الماضي.

 

ثمة أسباب وخلفيات متعددة دينية تاريخية سياسية، وحتى عاطفية تقف وراء هذا الموقف التركي الرسمي والشعبي الجامع والفريد من القدس


ثمة أسباب وخلفيات متعددة دينية تاريخية سياسية، وحتى عاطفية تقف وراء هذا الموقف التركي الرسمي والشعبي الجامع والفريد من القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام، بغض النظر عن الانتماءات الفكرية السياسية أو الحزبية.

بداية، فإن فلسطين هي الدولة الأحبّ والشعب الفلسطيني هو الشعب الأحب للشعب التركي، وطبعاً إسرائيل هي الدولة الأكثر كرهاً، وبعدها الولايات المتحدة وفق استطلاع أُجريَ في العام 2001 بإشراف الاتحاد الأوروبي، ودائماً ما كان التعاطف التركي حاضراً مع الشعب الفلسطيني، أي كان الحزب الحاكم أو رئيس الوزراء الذي يقود البلاد، سواء أكان هذا يمينيا أو يساريا أو وسطيا.

إذن، التضامن مع فلسطين كان حاضراً دوماً من قبل الشعب أو الدولة، سواء في تركيا الأتاتوركية القديمة، أو تركية الأتاتوركية الأردوغانية الجديدة. فقد كانت القضية الفلسطينية دوماً سبباً للتوتر خفض مستوى  العلاقات أو قطعها بين تركيا وإسرائيل. ففي تركيا القديمة، وبعد سنوات فقط من إقامة العلاقات رسمياًبين البلدين، وإثر العدوان الثلاثي ضد مصر وفلسطين (1956)، تم تخفيض مستوى التبادل الديبلوماسي بينهما. وفي العام 1980، تم خفض مستوى العلاقة مرة أخرى إثر إعلان إسرائيل القدس عاصمة موحدة أبدية لها بعد تظاهرة مليونية غير مسبوقة آنذاك في تركيا كلها.

 

في أواخر تركيا القديمة وبداية الألفية الجديدة، كان الشعب التركي متعاطفاً ومسانداً للشعب الفلسطيني وقيادته

في أواخر تركيا القديمة وبداية الألفية الجديدة، كان الشعب التركي متعاطفاً ومسانداً للشعب الفلسطيني وقيادته عند اندلاع الانتفاضة الثانية، وآخر رئيس وزراء في تركيا القديمة، اليساري بولنت أجاويد، وصف ما تفعله إسرائيل آنذاك بحرب أو جريمة إبادة ضد الشعب الفلسطيني.

في تركيا الجديدة؛ بدا أن التحالف أو العلاقات الحميمة بين البلدين قد انتهت بمجرد طي صفحة تركيا القديمة وفتح صفحة تركيا الجديدة، مع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة فى العام 2002، ثم كان تخفيض مستوى العلاقات بين البلدين بعد جريمة أسطول الحرية في العام 2010، وهي الحادثة التي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، ليس فقط البرود في العلاقات بين البلدين، وإنما استحالة العودة إلى التحالف الاستراتيجي كما كان الحال في نهاية التسعينات، بعد اتفاق أوسلو الذى أشاع انطباعا خاطئا بانتهاء الصراع العربي الإسرائيلي.

القدس كانت حاضرة كذلك في العقل الجمعي للشعب التركي بفئاته الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك العلمانيين منهم كونها تحمل مكانة دينية ثقافية وفكرية كبيرة في الوجدان الشعبي، حتى أن عادة تقديس الحج - زيارة القدس قبل أو بعد مراسم الحج - عادت للظهور في تركيا، وهي عادة قديمة ومتجذرة عند الشعب التركي كما شعوب إسلامية أخرى.

في السياق المقدسي ثمة دعوات وحملات لزيارة القدس، وتأكيد طابعها الإسلامي، إضافة إلى دعم صمود الفلسطينيين فيها، ليس نفسياً سياسياً وإعلامياً، وإنما اقتصادياً فقط، مع الحرص على جدول سياحي يلحظ زيارة مختلف المدن الفلسطينية، وقضاء كل الوقت بين القدس وبينها، بما في ذلك المبيت في الفنادق المطاعم والخدمات السياحية الأخرى.

تركيا كذلك هي دولة ديمقراطية، والحريات السياسية الاقتصادية الاجتماعية مصانة لفئات الشعب المختلفة، التي بإمكانها التعبير عن آرائها السياسية الفكرية الثقافية بحرية وشفافية. وفي ضوء  التعاطف الكبير مع الشعب الفلسطيني وقوة المجتمع المدني ومنظماته، لم تكن ثمة مشكلة في التعبير عن هذا التعاطف عبر الرفض الغاضب للقرار الأمريكي في تظاهرات عمت البلد من أقصاه إلى أقصاه، حتى أن أسطنبول وحدها شهدت 39 تظاهرة  تضامنية في الجمعة العظيمة (8 كانون الأول/ ديسمبر الحالي).

 

ثمة توتر كبير طبعاً تعيشه العلاقات التركية الأمريكية، وثمة خلافات عديدة تعصف تطال عدة ملفات سياسية أمنية، وحتى اقتصادية

في السياسة، ثمة توتر كبير طبعاً تعيشه العلاقات التركية الأمريكية، وثمة خلافات عديدة تعصف تطال عدة ملفات سياسية أمنية، وحتى اقتصادية، وهناك خلاف كبير حول السياسة الأمريكية في سوريا والعراق، ودعم واشنطن لتنظيمات تعتبرها تركيا إرهابية، وتقديم السلاح لها لاستخدامه في عملياتها ضد الأمن التركي. كما أن ثمة خلافا مستجدا حول قضية رجل الأعمال رضا ضراب (تحول إلى شاهد) ونائب رئيس بنك خلق السابق  محمد هاكان، اللذان يحاكمان أمام القضاء الأمريكي بتهمة انتهاك العقوبات الأمريكية ضد إيران، بينما تضع السلطات التركية القضية في سياق الابتزاز والضغط والرغبة في تطويع واشنطن لأنقرة، وإجبارها على الانصياع لقواعد اللعب التي ترسمها في المنطقة، بما في ذلك إبقاء سيناريو التقسيم على جدول الأعمال وفي الميدان.

الموقف التركي الغاضب من القرار الأمريكى له بعد يمس إسرائيل - الدولة الأكثر كرهاً في تركيا وحتى في العالم - حيث تبدو العلاقات السياسية والديبلوماسية في أدنى مستوياتها، رغم أنها معقولة إلى حد ما في بعدها الاقتصادي المدار بالكامل من قبل القطاع الخاص. وعموماً، ورغم التفاؤل بعد توقيع اتفاق المصالحة 2016 بعودة العلاقات إلى وضعها الطبيعي، إلا أن ذلك لم يحدث في ظل الخلاف حول ملفات عديدة سياسية اقتصادية، وحتى اقتصادية، وتحديداً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ التي ستظل حجر عثرة في الطريق بين الجانبين. وهذا الخلاف انعكس بالتأكيد على موقف تركيا من قرار ترامب الأخير، باعتبار القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل.

تركيا إذن، كما قال الرئيس أردوغان، ستستخدم كل الوسائل السياسية القانونية والديموقراطية المتاحة، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية وقوى عربية إسلامية ودولية أخرى؛ لإفراغ قرار ترامب من محتواه، وجعله منعدم الأثر وبلا قيمة، مع تأكيدها على أثره الضار على حل الدولتين، وعلى العدل السلام، الأمن، والاستقرار في المنطقة، ناهيك عن انتهاكه الفظ للقرارات والمواثيق الدولية ذات الصلة تحديداً قرار مجلس الأمن 478، الذى رفض الاعتراف بإعلان إسرائيل القدس عاصمة لها، ودعا المجتمع الدولى إلى عدم القبول بأي تداعيات أو انعكاسات له. وعموماً، يمكن الاستنتاج أن القرار الأمريكي أظهر مدى وعمق التعاطف التركي الرسمي والشعبي مع القدس والقضية الفلسطينية، كما صب مزيدا من الزيت على العلاقات التركية الأمريكية المتأججة والمفعمة بالتباينات، وأظهر من جهة أخرى عمق الهوة بين تركيا وإسرائيل، واستحالة عودة العلاقات حتى إلى مستوى طبيعي وعادي بين البلدين.

التعليقات (0)