قضايا وآراء

كتالونيا.. العودة إلى المربع الأول

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

 أسفر الانتخاب السابق لأوانه ليوم 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017 عن نتائج أعادت الأزمة الكتالونية إلى المربع الأول .

 

فمن أصل 135 هو العدد الإجمالي لنواب البرلمان الجهوي في كتالونيا، فازت الأحزاب الثلاثة الداعية إلى الاستقلال  بسبعين مقعدا، بينما ظفر " الوحدويون" بستة وثلاثين، ولم يتجاوز نصيب " الحزب الشعبي" الحاكم  ثلاثة  مقاعد، مشكلا بذلك أكبر خسارة  لرئيس الحكومة  " ماريانو راخوي" في مدريد.


  أكّد الانتخابُ الأخير حقيقةَ أن أزمة " كتالونيا" مستمرةٌ ، وستظل مستمرةً، وأن اللجوء إلى  القانون ، أو إلى القوة، إو إليهما معا، لن يوقف نزعة الانفصال المتأصلة في وجدان الكثير من ساكنة كتالونيا وثقافتهم، وأن  الحكمة والمنطق يدعوان إلى اعتماد الحوار سبيلا لتقريب الرؤى وردم الفجوات.

 

ففور الاعلان عن النتائج صدر تصريحان متنافرين ، من حيث الدلالات والأبعاد، أعاد أولهما على لسان رئيس الحكومة المركزية في مدريد التأكيدَ على عدم العودة إلى الوراء، وأن الحوار لن يكون مع دعاة الانفصال، بينما أعلن ثانيهما ـ  باسم رئيس حكومة " كتالونيا" المخلوع ،  القابع  في منفاه في بروكسيل " كارلس بوجديمون" ـ عن انتصار إرادة الاستقلال، وأن النتيجة تدعو  مدريد  على التفكير الجدي مع الممثلين الشرعيين لكتالونيا.


 نحن إذن أمام إرادتين متباعدتين: إرادة الانفصال عن المملكة الاسبانية، والدعوة إلى إنشاء كيان مستقل ، وإرادة التمسك   بالوحدة الإسبانية  ضمن شرعية دستور  ملايين ونصف مليون ناخب، وباقي عموم التراب الإسباني؟.

 

نميل إلى الاعتقاد مرة أخرى بأن الحوار وحده القادر على التقريب بين الإرادتين المتباعدين، ودونه لن تجد الأزمة الكتالونية طريها إلى الحل، الآن وفي المستقبل.لكن للحوار، بالمقابل، متطلباته، كي يكون مجدياً ودافعاً نحو التوافقات الممكنة.

 

ولعل أول متطلب أن يكون الحوار مؤسساً على ثقافة " رابح رابح"، أي أن  يكون للإرادتين معاً نصيبهما من نتائج الحوار، وإلا  يتحول الحوار إلى نوع من " الإذعانّ، وتكون قسمته " قسمة ضيزى" ليس إلا. 


  ثمة تعقيدات لابد أن تجد طريقها إلى الحل قبل الشروع في الحوار، إن اتفق الطرفان عليه سبيلاً، وفي صدر هذه التعقيدات معالجة وضعية رئيسي حزبي كل من " معا من أجل كتالونيا" ، " كارلس بوجديمون"، الموجود في وضع لجوء اضطراري في بروكسل، ونائبه  رئيس حزب " اليسار الجمهوري في كتالونيا" ، القابع في السجن على مقربة من مدريد.

 

والحقيقة أنها واقعة فريدة لم تحصل في  إسبانيا الحديثة، ولم تشهد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي نظيراً له.

 

وهل يتأتى للأحزاب الانفصالية  الثلاثة الفائزة  بالأغلبية المطلقة  في البرلمان  الكتالاني تشكيل حكومة ائتلافية، وقيادة البرلمان الجهوي؟، أم أن لن تعترف الحكومة المركزي في مدريد نتائج الانتخاب، والاستمرار بالتمسك بالشرعية الدستورية، وتحديداً أحكام الفصل 155 من دستور 1978؟.

 

وإذا حصل هذا، وتجاوز  الوضع النسبة المحددة  قانونيا دون  التئام  البرلمان ، وانطلاق عمل حكومة إقليم كتالونيا، أي أربعة وخمسون يوما، هل يتم اللجوء إلى إجراء انتخابات جديدة؟، وهل هذه إمكانية بديلة مقبولة وفعالة؟، أم أن الأمر سيتحول إلى ما يشبه الدوران في  حلقة مُفرغة؟.


  لنمعِن النظر في الإمكانيات المتاحة أمام الأزمة الكتالونية، وسبل الخروج منها، وإن كانت كل الدلائل تنبه على أن العملية معقدة، وأن الفجوة كبيرة ومتسعة بين الطرفين، أي بين إرادتي الوحدة وإرادة الإننفصال.


 إذا افترضنا جدلا أن التعقيدات المشار إليها أعلاه تمّ تليينها، فاسترجع زعيما الحزبين الفائزين من الأحزاب الانفصالية الثلاثة، حريتهما، فعلى أية قاعدة سيتم الحوار مع الحكومة المركزية في مدريد؟. هل على أساس الإعتراف بالأمر بالواقع، أي  التسليم بشرعية النتائج، وتاليا بمشروعية الاستقلال، وبعدها التفكير والحوار حول يجب أن تكون عليه علاقة كتالونيا المستقلة مع  المملكة الإسبانية؟.

 

لا أعتقد أن هذا الاحتمال وارد، لأن المعطيات الموضوعية والذاتية لا تسمح به إطلاقاً ، بل إن المحيط الجيوبوليتيكي  الأوروبي لا يشجع عليه، بل ينبذه جملة وتفصيلا.

 

ما نراه ممكن الحصول، إن  تحلحلت  إرادة مدريد، هو الاعتراف بشرعية نتائج الاقتراع الأخير،            و الشروع في صياغة خارطة طريق للحوار على قاعدة حقيقة هذه النتائج، يكون سقفها، أو أقصاها المقبول  العمل على تعديل دستور 1978، بما يسمح بإعادة   النظر في محتوى  نظام " مناطق الحكم المستقلة"، بُغية  إعطائها، ومنها إقليم " كتالونيا" استقلالية أوسع وأعمق، دون المساس بمبدأ  وحدة الأمة الإسبانية ، وتماسك التراب الإسباني.


  يشجع على واقعية هذا الطريق في معالجة الأزمة ما يلف الأزمة ذاتها ويتحكم فيها. فبعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على إعلان الانفصال شهدت كتالونيا نزيفا اقتصاديا  لم تعرفه من قبل، فهاجرت وهُجرت منها الوحدات الاقتصادية والإنتاجية، واستفحلت البطالة، وتراجعت مستويات العيش بشكل ملحوظ، و انقسم دعاة الاستقلال على أنفسهم.

 

ثم إن استقلال كتالونيا يعني استقلال امتداداتها في جبال البرانس على الحدود الفرنسية، وإذكاء النزعات المماثلة لها في أكثر من بلد أوروبي، وهذا ما لا تقبله المنظومة الأوروبية إطلاقاً.. لذلك، قد تستمر أزمة كتالونيا، وقد تتضاعف تعقيداتها في الزمنين القريب والمتوسط، لكن  لا يظهر حل مقبول ومنطقي  وممكن في الزمن البعيد سوى توسيع وتعميق دائرة الاستقلالية ضمن وحدة إسبانيا التاريخية، التي كرسها دستور 1978.  

0
التعليقات (0)

خبر عاجل