كتاب عربي 21

وقفة مع ألفة يوسف : خطأ في المنهج أم في الهدف ؟

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600


انتقدت الباحثة الجامعية ألفة يوسف التقرير الذي أصدرته مؤخرا " لجنة الحريات الفردية والمساواة " الذي صدر يوم الثلاثاء الماضي. واعتبرت في تدوينة أن التقرير " يؤكد للمرة الألف أننا نداور منذ عصر النهضة عبر التلفيق بين الحداثة والتمثلات الفقهية وهو ما قادنا وما يزال يقودنا إلى الفشل المطلق ". وأضافت " أن الحريات والمساواة والحداثة لا انتماء ولا دين ولا حضارة ولا جنسية لها، وهي لا تتجزأ.. التوصيات ممتازة لكن خلفياتها النظرية هشة مهما نحاول ". بل ذهبت إلى أكثر من ذلك عندما أقدمت على المصادرة التالية " " التّلفيق الذي يقوم عليه التشريع التونسي وكثير من تشريعات البلدان الأخرى بين القانون والتّشريع الدّينيّ هو أساس الانفصام النفسي في المجتمع وسبب من أسباب التّخلّف".

تعتبر ألفة من بين الجامعيات الأكثر شهرة داخل تونس وخارجها نظرا لمواقفها النقدية، خاصة تجاه حركات الإسلام السياسي، وتحديدا حركة النهضة. ولهذا استغرب الكثيرون موقفها الأخير من تقرير الحريات. ويعود هذا الاستغراب إلى عاملين رئيسيين.

يتعلق الأول بما اعتبره المساندون للجنة الحريات الفردية ضربة موجعة لهذا الجهد من قبل باحثة حداثية كان يفترض فيها مساندة اللجنة لا المساهمة في التشكيك في جهودها ضمن سياق تجندت بعض الأطراف المحافظة لمناهضة ما ورد في التقرير من أفكار وتوصيات اعتبروها " منافية للدين وتهدد نمط المجتمع التونسي ".

أما العامل الثاني الذي أدى الى الاستغراب من موقف الباحثة أنها تعتبر من بين الذين اقتحموا مجال الإسلاميات معتمدة في جميع أبحاثها وكتبها التي صدرت على المنهج التأويلي. وهو المنهج الذي يستند على إعادة تأويل النصوص الإسلامية لتضمينها معان جديدة ويحررها من السياقات القديمة ويكشف رحابة المعنى بعيدا على الانحباس التاريخي الذي يسجن النصوص التأسيسية في حيز زمني ماض.

وعندما جادلتها في هذه المسألة ضمن حوار إذاعي، فاجأتني وفاجأت جمهورها بالقول أنها طيلة المرحلة السابقة كانت تعتقد بأن المنهج التأويلي قادر على تحقيق الإضافة في تحرير الإسلام من القوالب التراثية، لكنها اكتفت بالقول الآن بأن هذا المنهج قاصر، وأنه خلال الصراع الاجتماعي والأيديولوجي، تنجح التيارات السلفية الراديكالية في الاعتماد على نفس النصوص وتتمكن بذلك من إعادتها إلى نسقها المغلق، فتزيد بذلك من تأبيد الحالة الدينية السائدة، وتعمق ارتباك المسلمين. وأقرت بكونها في حيرة معرفية كبرى، وأنها حاليا لا تملك بديلا واضحا، رغم أنها لم تتنكر للإسلام، ولا تزال ترى فيه معينا روحيا قويا بشرط إبعاده عن مطامع الإسلاميين.

إن ما عبرت عنه ألفة يوسف من موقف نظري مع الاحتفاظ بإيمانها بأهمية الإسلام وإيمانها بقوته الروحية، عبر عنه آخرون بشكل مختلف في محاولة منهم إبعاد الإسلام كليا عن مختلف مجالات الحياة، واعتباره فقط شأنا فرديا من خلال التخلص من الاعتقاد بكونه من بين المرجعيات التي يستند عليها التونسيون في سلوكهم وثقافتهم وتشريعاتهم إلى جانب الدستور والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان.

لقد دار جدل داخل لجنة الحريات الفردية والمساواة حول هذه المسألة بالذات. هل نقحم الإسلام في هذه المسائل الحقوقية أم نسقطه من الحساب ويكون النقاش فقط قانونيا بحجة أن الدولة هي التي تحسم في مجال تنظيم المجتمع. لكن النقاش أفضى في نهاية الأمر إلى كون المشرع التونسي لم يفصل في مساراته العديدة بين البعدين القانوني والثقافي. فطاهر الحداد الذي يعتبر في تونس من بين المنظرين الذين مهدوا للثورة التشريعية التي حدثت بعد الاستقلال انطلق من النصوص المرجعية في دعوته إلى تحرير النساء. وحتى الرئيس بورقيبة رغم عدائه الشديد لجامع الزيتونة إلا أنه بقي حريصا على الاستعانة بعدد من الشيوخ الكبار المعروفين بمواقفهم الإصلاحية مثل الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل. ولهذا حاولت لجنة الحريات الفردية أن تضع في بداية تقريرها بعض المقدمات، دون أن تتعمق كثيرا، تعرضت فيها لما سمته بالأبعاد الدينية والسوسيولوجية لمسألتي الحرية والمساواة. واعتبرت أن ما تقدمه من توصيات في تقريرها ينطلق من المنهج المقاصدي الذي تميزت به المدرسة الإصلاحية التونسية.

لا يعتبر هذا التمشي تلفيقا أو فوضى فكرية كما يعتقد البعض. والذين يدعون إلى إحداث قطيعة معرفية بين التشريع والثقافة يسقطون في الفخ الذي يخدم خصومهم الذين سيستغلون ذلك وينطلقون من أجل قلب الطاولة عليهم وعلى الدولة، ويغرسون الشك في صفوف غالبية المواطنين الذين بدل أن يروا في تطوير التشريع فرصة جديدة لتحقيق التقدم الاجتماعي في كنف احترام جوهر المعتقدات الإسلامية، فإذا بالريبة تنتابهم في هذه اللحظة التاريخية، وبدل أن يساندوا التطور التشريعي القادم، ينقلبون عليه ويسقطون في أيدي من يرغبون بالعودة بهم إلى مراحل سابقة من التاريخ الذي لن يعود، وإذا عاد فسيكون في نسخة تراجيدية كما فعل تنظيم " داعش ". 
0
التعليقات (0)