بورتريه

حنا مينه.. نهاية رجل شجاع رواياته مبللة بمياه البحر (بورتريه)

حنا مينه - بورتريه
حنا مينه - بورتريه

كان البحر مصدر إلهامه الدائم، حتى أن معظم أعماله "مبللة بمياه موجه الصاخب"، كما يقول عن نفسه.

كان يرى بأن "مهنة الكاتب ليست سوارا من ذهب"، وإنما هي "أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة".

رصد عبر أكثر من أربعين رواية على مدى نصف قرن قضايا الناس، انتقد فيها الاستغلال والجشع، واضطهاد المرأة.

لم ينفذ من وصيته التي كتبها قبل نحو عشر سنوات سوى القليل، فهو تمنى على عائلته، بعد إهالة التراب عليه في "أي قبر مُتاح"، أن" ينفض الجميع أيديهم، ويعودوا إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة".

وناشد الجميع بعد موته: "لا حزن، لا بكاء، لا للباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبينات، وكما جرت العادات، منكرة، منفرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعا، أن تريحوا عظامي منها".

حنا مينه المولود في عام 1924 في مدينة اللاذقية، ترعرع في أسرة فقيرة في حي كان يدعى "المستنقع" في لواء الإسكندرون الذي ضمته تركيا عام 1937، وتوقف عن الدراسة بعد انتهائه من المرحلة الابتدائية؛ بسبب الفقر الشديد الذي كانت عليه أسرته.

لم يكن لوالده عمل ثابت يعتاش منه، فتارة كان يعمل حمالا في المرفأ، وتارة بائعا للحلوى، وأخرى مزارعا، أو عاطلا عن العمل.

كانت الكنيسة تقدم لأسرته المساعدات في ذلك الوقت، ما اضطر حنا إلى العمل للتخفيف من العبء على والده.

كافح كثيرا في بداية حياته، وعمل حلاقا، وحمالا في ميناء اللاذقية، ثم بحارا على السفن والمراكب.

واشتغل في مهن أخرى، منها مصلح دراجات، ومربي أطفال في بيت سيد ثري، إلى عامل في صيدلية، إلى صحفي أحيانا، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية، إلى موظف في الحكومة، وأخيرا إلى روائي.

وصف حالة الفقر التي عاشها في طفولته بقوله: "كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع، وأحسد الكلب لأن له مأوى".

وعرف حنا مينه الغربة كذلك، إذ أقام في أوروبا والصين لسنوات طويلة.

بدايته الأدبية كانت متواضعة، فتدرج في كتابة العرائض للحكومة، ثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سوريا ولبنان، ثم تطور إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة.

كما أنه واصل إرسال قصصه الأولى إلى الصحف السورية في دمشق، وبعد استقلال سوريا، استقر به الحال في عام 1947 في دمشق، وعمل في جريدة "الإنشاء" الدمشقية، حتى أصبح رئيس تحريرها.

خاض المعترك السياسي باكرا، وناضل ضد الانتداب الفرنسي الذي عاشته سوريا حتى أربعينيات القرن الماضي. إلا أنه انسحب من السياسية بعد ذلك، وكرس وقته للكتابة.

بدأت حياته الأدبية بكتابة مسرحية، لكنها ضاعت من مكتبته، فلم يكترث بعدها لكتابة المسرحيات.

خصص معظم رواياته وقصصه للبحر الذي عشقه وأحبه، وأولى رواياته الطويلة التي كتبتها كانت بعنوان: "المصابيح الزرق" في عام 1954، وتوالت إبداعاته وكتاباته بعد ذلك، وتحول الكثير منها إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية.

ساهم حنا مينه، الذي كان يجاهر بانتمائه الشيوعي، مع لفيف من الكتاب اليساريين في سوريا في عام 1951 بتأسيس "رابطة الكتاب السوريين"، التي نظمت في عام 1954 المؤتمر الأول لـ"لكتاب العرب" بمشاركة عدد من الكتاب الوطنيين والديمقراطيين في سوريا والبلاد العربية.

نهاية رجل شجاع


في مؤتمر الإعداد للاتحاد العربي التي عقد في مصيف بلودان في سوريا في عام 1956، كان لحنا مينه الدور الواضح في الدعوة إلى إيجاد وإنشاء "اتحاد الكتاب العرب" الذي خرج إلى النور في عام 1969.

لعل رواية "نهاية رجل شجاع" هي الرواية الأكثر رسوخا في الذاكرة، لأن الكثيرين تابعوا بشغف المسلسل التلفزيوني الذي حمل العنوان ذاته، وقام ببطولته أيمن زيدان، بشخصيته الشهيرة "مفيد الوحش"، إلى جانب سوزان نجم الدين.

لكن ثمة أعمال أخرى كتبها حنا مينه تجاوزت 40 رواية، من بينها "المصابيح الزرق"، "الشراع والعاصفة"، "الياطر"، "الأبنوسة البيضاء"، "حكاية بحار"، "الثلج يأتي من النافذة"، "الشمس في يوم غائم"، "بقايا صور"، "القطاف"، "الربيع والخريف"، "حمامة زرقاء في السحب"، "الولاعة"، "فوق الجبل وتحت الثلج"، "مأساة ديميترو"، "المغامرة الأخيرة"، و"المرأة ذات الثوب الأسود".

تميز مينه بأسلوبه المغرق في الواقعية، في تصويره لأبطال رواياته الذين يختار معظمهم من حواري وأزقة مدينته اللاذقية، دون أن يعمد حتى إلى تغيير أسمائهم.

وساد عنصران مهمان عالم حنا مينه الروائي، أولهما: البحر، الذي، كما جاء في مقدمة رواية "الدقل"، هو ميدان لكل الصراعات.

أما العنصر الآخر، المهم، فهو الحارة الشعبية في مدينة اللاذقية في عالم ما بين الحربين العالميتين.

وذات يوم قال مينه: "لو خيروني بكتابة شاهد على قبري، لقلت لهم اكتبوا هذه العبارة، المرأة.. البحر.. وظمأ لم يرتو".

توفي "شيخ" و"سيد" الرواية السورية، بعد معاناة طويلة مع المرض، ويجمع النقاد على أن مينه لعب دورا رياديا في الرواية السورية والعربية أيضا على حد سواء.

والملفت أن مينه نعى وكتب تأبينا لنفسه في وصيته الشهيرة بقوله: "عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يذاع خبر موتي في أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطا في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطا في مماتي".

لكن مينه لا يمكن أن يمضي خبر موته دون ضجيج، فقد تناولت خبر وفاته وسائل الإعلام المختلفة، بعد معاناة عاشها الراحل لسنوات طويلة من حياته، كان آخرها المرض ثم الرحيل.

 

التعليقات (0)