كتب

الأزمة الدستورية في الفكر الإسلامي.. أصلها ومساراتها

الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية
الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية

يواصل الكاتب والباحث الموريتاني في شؤون الفكر الإسلامي الدكتور محمد المختار الشنقيطي مسيرته العلمية في تتبع المحطات الرئيسية في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، فقد أصدر مؤخرا كتاب "الأزمة الدستورية في الحضارة الاسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي" تتمة لسلسلة من البحوث، لعل من أبرزها "الخلافات السياسية بين الصحابة.. رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ".

الكتاب صدر عن "منتدى العلاقات العربية الدولية"، بالدوحة، في العام 2018، ومن تقديم راشد الغنوشي، زعيم "حركة النهضة" التونسية، وجاء في 607 صفحات من الحجم المتوسط.

الهدف من الكتاب، وفق الشنقيطي، هو "دراسة الأزمة الشرعية السياسية في الحضارة الإسلامية، تعتمد النصَّ الإسلاميَّ معيارًا، والتجربةَ التاريخية الإسلامية موضوعًا، وخروجَ المسلمين من  أزمتهم السياسية غايةً".

وتتألف الدراسة - بعد المقدمة - من مدخل تمهيدي، وثلاثة أقسام يشتمل كل منها على فصلين، ثم خاتمة.

وإذا أردنا أن نضع أقسام الدراسة في تقابل، فيمكن القول إن موضوع القسم الأول هو النص السياسي الإسلامي، وموضوع القسم الثاني هو التاريخ السياسي الإسلامي، وموضوع القسم الثالث هو تلمس سبيل للخروج من الأزمة السياسية الإسلامية.

في تقديمه للكتاب والذي اتخذ له عنوان "التقدم نحو الإسلام"، يثمّن الشيخ راشد الغنوشي هذا العمل ويعتبره بمثابة "الإجابة عن السؤال الكبير: سؤال النهضة"، وسؤال "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".

وفي إشادته بالطرح الأكاديمي والعلمي للدراسة، يذكّر الغنوشي بموقفه من الآداب السلطانية والتي لم تكن صالحة حتى لزمنها فقد كانت "تسوّغ لواقع منحرف بدل أن تساهم في تغييره والشهادة لقيم الإسلام ومقاصده".

الكتاب جمع بين المناهج الثلاثة التي تناول من خلالها الكتاب والباحثون أزمة الشرعية في الحضارة الإسلامية؛ المنهج النصي الذي يتتبع القيم السياسية بصيغتها النظرية التجريدية في نصوص الوحي؛ قرآنا وسنة وفي سيرة الخلفاء الراشدين، والمنهج السياقي (التاريخي)؛ الذي عُني بتحليل التاريخ السياسي الإسلامي.

فمن قيم البناء السياسي مثلًا قيمة الشورى، بمعنى حق الناس في اختيار من يقودهم، وحقهم في محاسبته وعزله، لأن الجماعة هي مصدر الشرعية السياسية. ومنها: قيمة التمثيل السياسي، لأن الناس لا يمكن أن يمارسوا السلطة بشكل مباشر، وفي التاريخ دليل على عدم إمكانية ذلك، فقد انهارت الديمقراطيات المباشرة كديمقراطية أثينا، لأنها لم تقم على أساس نظام هرمي تمثيلي. ومن ضمن قيم البناء السياسي أيضًا: واجب لزوم الجماعة، ووحدة المسلمين، وطاعة السلطة الشرعية، وعقد البيعة. وهي تشمل "المعنى الفلسفي والأخلاقي للاجتماع الإنساني من منظور إسلامي، ثم المبادئ والأحكام السياسية الكبرى السابقة على وجود السلطة أو المواكبة له".

أما قيم الأداء السياسي فهي تشمل: الرد إلى الله ورسوله، التزام السواد الأعظم، الأخذ على يد الظالم، المال العام مال الله، منع الرشوة والغلول، الأهلية الأخلاقية للمناصب السياسية (الأمانة)، الكفاءة العلمية (القوة)، المواءمة (وتعني أن يكون الشخص ملائما من الناحية السياسية للمنصب السياسي الذي يشغله)، المشاورة في صناعة القرار، النصح من الحاكم والمحكوم، رفق الراعي بالرعية، منع الاحتجاب عن الرعية، منع الإكراه في الدين، وحدة الأمة السياسية. 

ويؤكد المؤلف أن "ترتيب القيم السياسية الإسلامية ضمن صنفي البناء والأداء ترتيبا ثنائيا ـ دون اعتبارها كتلة واحدة ـ يدل على أن تتصدر قيم البناء، والرد إلى الله والرسول ـ بمعناه القانوني المرجعي ـ يتصدر قيم الأداء. فمن دون شرط الشورية لا ينبني النظام السياسي على ركن ركين من البداية، ومن دون شرط المرجعية يفقد النظام هويته الإسلامية".

الفتنة والانحراف 

هذا الانحدار الخطير الذي أدى إلى تغير جذري في مسار الأمة، مع هذه اللحظة الفارقة التي مازالت تعاني الأمة من ثقلها إلى وقتنا الحاضر، يُبيّن الشنقيطي أن الانحرافات عن القيم السياسية الإسلامية التي بدأت في منتصف ولاية عثمان رضي الله عنه وتسببت في الفتنة الكبرى، كانت محصورة في "الإخلال بقيم الأداء السياسي"، ولكنها تطورت في عهد معاوية إلى الإخلال بـ"أساس الشرعية السياسية في الإسلام".

ويرى أن الفتنة التي وقعت في عهد عثمان شكلت "الحدث التأسيسي الذي زرع الخوف في قلوب المسلمين من انهيار دولتهم واندثار أمتهم". وقد أدى ذلك إلى "خروج الأمر السياسي من أيدي نخبة الصحابة المنضبطين بضوابط الشرع، وانتقاله إلى أيدي الغوغاء من الأعراب. وهذا ما مهد لخروج الأمر من أيدي الأمة إلى أيدي السلطة الملكية القيصرية".

ويؤكد أن صفقة عام الجماعة ـ التي ضحت بالشرعية السياسية لمصلحة وحدة الأمة ـ "كانت مدخلا للانتقال من منظومة أخلاقية هي قيم التعاقد السياسي الإسلامي، إلى منظومة مغايرة تماما هي قيم التملك والقهر"، ملاحظا أن "معادلة التضحية بالشرعية لمصلحة وحدة الأمة تحكمت في الثقافة السياسية الإسلامية بعد ذلك، ولم تستطع الخروج منها إلى اليوم".

قرابة قديمة

ويرى أن الموروث "الساساني الفارسي" على وجه الخصوص كان حاضرًا في إعادة تشكيل القيم السياسية الإسلامية التي تمحورت حول دور الحاكم "الملك" المتصرف في ملكه، في حين فات المسلمين الإرثُ اليوناني القائم على الديمقراطية، والذي كان سيغيِّر من المعادلة ليكون الشعب مركز الحكم وليس الحاكم "المتألِّه" الذي يستغل الدين لخدمته بدلًا من أن يكون هو لخدمة الدين، خاصة وأن "الإسلام كان أقرب إلى العالم الغربي القديم ذي التقاليد الديمقراطية اليونانية الرومانية منه إلى العالم الشرقي القديم (فارس والهند والصين) الذي ساد في ثقافته تأليه الحكام والخنوع الطوعي للاستبداد". 

هذا القرب والقرابة بين الإسلام والغرب، يترجمه الشنقيطي في تصويره للدولة ذات القيم الإسلامية، فيقرر مستعينًا بابن خلدون أن هناك ثلاثة نماذج للدول من حيث قربها أو بعدها من المعيار الإسلامي:

1 ـ الدولة الإسلامية المعيارية: وهي التي "تتأسس على التعاقد والتراضي في بنائها، وتلتزم بالمرجعية الأخلاقية والتشريعية الإسلامية، فهي تجمع بين الشورية والمرجعية الإسلامية". 

2 ـ دولة العدالة البشرية: وهي الدولة التي "تتأسس على التراضي والتعاقد لكنها لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية"، ويدخل تحت هذا الصنف أغلب الدول الديمقراطية المعاصرة.

3 ـ دولة الهوى: "وتتأسس على القهر والجبر في بنائها، ولا تلتزم بمرجعية قانونية، لا إسلامية ولا غير إسلامية"، ومنها دول الاستبداد ودول الطغيان العسكري. 
لا يتناقض مع الديمقراطية

ثم ينتهي بتوضيح، أن الدولة الإسلامية المكافئة لما دعاه ابن خلدون "الخلافة الشرعية" بمعناها المعياري لا التاريخي، هي الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية، وهذا مما يتوافق مع رؤيته القائمة على أن هناك "تلاقيًا واسعًا بين القيم السياسية الكبرى التي جاء بها الإسلام، والقيم الديمقراطية التي توصل إليها العقل الغربي خلال القرون الثلاثة الماضية"، لا بل اعتبر ذلك "معجزة من معجزات الإسلام الأخلاقية"، لأن الإسلام "دين الفطرة، وتوجد مساحة واسعة للتلاقي بينه وبين الأنظمة السياسية الساعية إلى تحقيق العدل والحرية، بغض النظر عن خلفيتها الدينية والفلسفية"، وهذا أيضًا مما تتيحه "طبيعة الإسلام التكميلية الترميمية الإصلاحية" الملهمة لاسيما في "مجال الانفتاح الثقافي".

ويدعو للمصالحة مع الدولة القُطرية؛ حيث إن "الدول المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدِّين أو العِرق، بل على أساس الجغرافيا، والعقد الاجتماعي للدولة المعاصرة هو عقد ملكية عقارية". ولكل شريك في هذا العقد "حق الانتفاع بالعقار" والأولوية فيها للعامل الجغرافي على "العوامل الأخرى التي كانت أساس العقد في الإمبراطوريات القديمة"، وهو، أي العقد المتأسس على الجغرافيا، "الأكثر انسجامًا مع التجربة الإسلامية الأولى في المدينة.. وأولى بالاعتبار مصدرًا للأخلاق والقوانين السياسية الإسلامية".

مآلات الثورات العربية   

يعتبر المؤلف إن الثورات العربية قد عبّرت عن بداية تحقق شروط خروج الحضارة الإسلامية من أزمتها الدستورية، حين تحررت الشعوب من الخضوع للمعادلات النفسية والفقهية العتيقة التي كانت تقيد حريتها فحصل الانقلاب في الوعي السياسي، والذي لم تعرفه الثقافة الإسلامية منذ نهاية القرن الهجري الأول.

طرح في القسم الثالث من الكتاب منظوره للتغيير ورؤيته للخروج من الأزمة، والتي تتمثل في مسألتين أساسيتين:

أولاهما: هي الخروج من فقه الضرورة المرهق، ومواريث الفتنة، إلى فقه النص الشرعي، واستلهام روح الثورات المباركة التي قام بها خيار الأمة في صدر الإسلام لاسترداد الشرعية الدستورية، ويؤكد المؤلف هنا أن "الاستبداد والحيف السياسي هما أصل الفتن السياسية ومصدرها، وأن الوقوف في وجه الظلم السياسي قبل استفحاله هو الذي يحصن المجتمع من الفتن السياسية".

والمسألة الثانية: التي يقترحها المؤلف للخروج من الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية، هي "تفعيل القيم السياسية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، بترجمتها إلى قواعد دستورية عملية منسجمة مع مقتضيات الدولة المعاصرة، والشروط الاجتماعية للزمن الحاضر"، وذلك بعد "تجريد هذه القيم من غواشي التاريخ، ثم ربطها بالزمن المعاصر، وربطها بالمنعرج الأخلاقي والسياسي الذي تعيشه البشرية اليوم". 

وقد توقّع المؤلف مآلات الثورات العربية والتي ستسلك حسب رأيه ثلاث طرائق:

1 ـ طريق الإصلاح الوقائي الذي يلتقي فيه الحاكم والمحكوم في منتصف الطريق.

2 ـ  طريق الحرب المفتوحة الطويلة التي ستنهك المستبدين وتنزلهم عند إرادة الشعوب

3 ـ وطريق "الانقلابات العسكرية الديمقراطية" التي قد تظهر إنقاذا للموقف من انهيار شامل.

 


ملامح الخروج من الأزمة الدستورية:

 

 
وضع الشنقيطي شرطين متلازمين لتحقق هذا الخروج:

1 ـ أن يكون الحل مقنعا للضمير المسلم، وهذا يستلزم أن لا يكون الحل علمانيا منبتا عن وجدان الشعوب ومزاجها الديني والأخلاقي.

2 ـ وأن يكون الحل منسجما مع منطق الدولة المعاصرة وهذا يستلزم أن لا يكون الحل سلفيا مستصحبا لتجارب الإمبراطوريات الإسلامية الغابرة.

وبناء على استحالة الخيار العلماني إسلاميا واستحالة الخيار السلفي إنسانيا، يقترح الشنقيطي المنهج الإسلامي التركيبي الذي يجمع بين الديني والمدني كأداة منهجية لمقاربة سؤال النهضة والخروج من الأزمة الدستورية.

 

تقاطع مع عبد السلام ياسين

خلاصة الأمر أننا أمام بحث عميق دقيق أضاف جديدا لساحة الفكر الإسلامي خاصة في هذا الظرف الدقيق من تاريخ الشعوب العربية التي تحركت ولا تزال للانعتاق من الاستبداد، غير أن ذلك لا يمنع من تسجيل بعض الملاحظات الهدف منها أن يبقى هكذا موضوع ذي الأهمية القصوى حاضرا في ساحة الحراك الفكري والشعبي.

الملاحظة الأولى أن الدكتور الشنقيطي يتقاطع في جزء لا بأس به مما طرحه ونظر له مع واحد من أعلام الحركة الإسلامية والمغاربية تحديدا، ويتعلق الأمر بالراحل عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان المغربية.

ومن القضايا التي أخذت نصيبا من دراسة الدكتور الشنقيطي المسألة المفاهيمية، وذلك لأن الرجل يدرك أهمية هذا الأمر كمدخل أساس لتفسير التاريخ والواقع. ومن بين القضايا المفاهيمية التي وقف حولها بتفصيل قضية الخلافة والملك، لكن الملاحظة التي أسجلها وهي أن الدكتور الشنقيطي ظل يصف ما قدم من أجله الدليل على أنه نمط للحكم مخالف للخلافة الراشدة بنفس المسمى، فهو يتحدث عن الخلافة العباسية والعثمانية والأولى أنه كان ينبغي أن يسمي الأمور بمسمياتها حتى تتجلى المفارقة المنهجية بل الجوهرية بين نظامي الخلافة والملك.

كما أن مقترح المؤلف للخروج من الأزمة الدستورية للحضارة الإسلامية والذي لخصه في "تفعيل القيم السياسية الاسلامية المنصوصة في القرآن والسنة بترجمتها إلى قواعد علمية منسجمة مع مقتضيات الدولة المعاصرة والشروط الاجتماعية للزمن بعد تجريد هذه القيم من غواشي التاريخ"، السؤال المحوري في نظري الذي كان على المؤلف هو ما المنهاج الذي ينبغي أن تسلكه الأمة لا لكي تصبح هذه القيم نصا مكتوبا وإنما الأصل هو أن تكون صفة لازمة في جموع جمهور الأمة، أقصد عليها تأسست وتشكلت الأمة خلقا وسلوكا، فالأمر تغيير تربوي عميق.

هذا بالإضافة إلى التداخل في مفهومي الشورى والديمقراطية ذلك أن فكرة أسلمة الديمقراطية كما يطرحها المؤلف تبدو غير واضحة اذ الأصل أن يكون التمييز واضحا بين فلسفة الديمقراطية وبين الآليات التي تعتمدها هاته الأخيرة، هذا مع التأكيد أن بين الشورى والديمقراطية تباين جوهري من حيث السياق والمساق.

 


*باحث مغربي في شؤون الفكر الإسلامي

0
التعليقات (0)