قضايا وآراء

مسؤولية التصرف الأممي بعد مذبحة معولمة

حسام شاكر
1300x600
1300x600

انزاحت نيوزيلندا فجأة من الزاوية الجنوبية الشرقية للكوكب إلى مركزه، وصار العالم يذكرها على مدار الساعة، حتى أنّ كرايست تشيرش التي يقطنها ثلث مليون نسمة تقدمت في العناوين على كبرى العواصم. هذا ما فعلته رحلة قصيرة بالسيارة قام بها أحدهم الذي لم يكن معروفا من قبل، اقترف خلالها مذبحة بشعة في مسجدين في المدينة.


كثيرة هي أعمال القتل الجماعي التي شهدها العالم من قبل، لكنّ اعتداء 15 آذار/ مارس 2019 الإرهابي ليس حدثا محليا أو شأنا نيوزيلنديا بحتا. فالقاتل الأسترالي اندفع إلى تنفيذ المذبحة مشبعا بدعاية أيديولوجية اختمرت في أماكن أخرى، واتضح فوق هذا أنه كان على تواصل مع أوساط عنصرية في أوروبا، ثم إن الرئيس دونالد ترمب كان شخصية مُلهِمة بالنسبة له على ما يبدو.


على الجانب الآخر صعد خطاب "لوم الضحية" بعد الاعتداء، فإلى جانب تعبيرات التشفي بالضحايا في مواقع التواصل الاجتماعي، صدرت تصريحات سياسية فجة كالتي عبّر عنها السيناتور الأسترالي فريزر أنينغ أو وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني.


تمنح هذه المؤشرات الانطباع بأن الخطابات الداعمة للمذبحة أو المتهاونة معها جاءت أوسع نطاقا من المتوقع، وأن كرايست تشيرش بدت مجرّد عنوان بريدي محلي لمعضلة عابرة للحدود.


هناك أبعاد أخرى ينبغي ملاحظتها. فالاعتداء على المساجد صار خبرا اعتياديا في السنوات الأخيرة في بعض الدول الأوروبية والغربية، بدءا من التشويه بالعبارات العنصرية وتعبيرات الكراهية، وصولا إلى الاعتداء المادي والتحطيم والإحراق، وقد تنتهي بعض الاعتداءات بحصيلة قاتلة أحيانا.

 

لكن الأسترالي برينتون تارانت قرر من جانبه أن يصنع حدثا مميزا بمنسوب مذهل من الضحايا، كان سيتضاعف لو أنّه وصل المسجديْن في كرايست تشيرش وقت الذروة.

أراد تارانت أن يصنع مذبحة مرئية للعالم أجمع عبر البث الشبكي المباشر. كان مما جعل اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 حدثا عالميا أنها جاءت، ضمن مواصفات أخرى، مصوّرة ومرئية للجمهور حول العالم، وقد نجح تارانت في إدخال العالم إلى أجواء الاعتداء الجديد. الفارق أن المشاهدين كانوا في مقاطع 11/9 المتلفزة من نيويورك في موقع المارّة الذاهلين مما يجري، بينما وضع مقطع كرايست تشيرش العالم في موقع المهاجم وتحت سطوة مؤثراته الصوتية المنتقاة بعناية. بدا مسجد النور في فوهة البندقية، ولم تظهر أي وجوه يمكن التعرّف عليها، فأولئك "الغزاة" – كما وصفهم برينتون تارانت – كانت أبدانهم تتساقط تباعا بعضها فوق بعض.

 

الاعتداء على المساجد صار خبراً اعتيادياً في السنوات الأخيرة في بعض الدول الأوروبية والغربية

أفرغ الإرهابي الرصاص في رؤوس المصلين وأبدانهم، وأقدم على تفجير الرؤوس في طريقه بمزيد من الطلقات. وعندما عاد إلى سيارته وجد مسلمة جريحة ممددة على قارعة الطريق وهي تستغيث، فأقدم على تفجير دماغها بالرصاص.


رأى هذه المشاهد الصادمة وغيرها مئات ملايين البشر حول العالم خلال الساعات الأولى من بثها في الشبكة، بما أدّى إلى عولمة الجريمة الإرهابية التي جاءت مقاطعها من نيوزيلندا محفوفة بالأغاني والموسيقى المفضّلة لجماعات عنصرية أوروبية معادية للمسلمين.


جرَت المذبحة في كريست تشيرش حقا، لكن مقدماتها ومحفزاتها تضافرت في أماكن أخرى على الأرجح. تماسكت نيوزيلندا في موقف تضامني مُبهِر في مواجهة حمّى الكراهية والعنصرية والإرهاب. 


والآن على العالم أن يتصرف بجدية ضد الإرهاب العنصري المعولم، فالاستجابة الفعالة لم تكن مسؤولية رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا آردرن وحدها. ينبغي مراجعة الخلفيات الأوسع لما جرى، وفضح خطاب الكراهية المعادي للمسلمين بنسخه المتعددة، بما في ذلك ما يصدر عن سياسيين ومنصّات إعلامية وما يغرِق مواقع التواصل الاجتماعي.

 

وينبغي الإقرار بأن صناعة الإسلاموفوبيا، بمؤسساتها وشبكاتها النشطة حول العالم؛ تشحن منصات الكراهية والتحريض بمزيد من المواد التي تصور المسلمين خطرا جسيما وتهديدا ماحقا؛ وهي الصورة التي حملها مقترف المذبحة في رأسه قبل ضغطه على الزناد.

التعليقات (0)